بقلم : رشيد الكرّاي
الحكمة أعلاه قالها الكاتب الأمريكي السّاخر الشهير مارك توين ، وقد استحضرتها وأنا أتابع الحملة الفايسبوكية والإعلامية الشرسة التي يخوضها الكثيرون هذه الأيام احتجاجا على استخدام بعض الإعلاميين والمحلّلين السياسيين لمصطلح القطيع في تفسيرهم لنتائج الانتخابات وكيف تمّ التلاعب بعقول البسطاء من الناس ليصوّتوا لهذا الطرف أو ذاك دون تفكير عميق ولا بحث دقيق عن أجندات هذه الأطراف وعن جدّية وعودهم الانتخابية وبرامجهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية . وذهب في فهم هؤلاء أن استخدام مصطلح القطيع هو استحقار لهم وحطّ من قيمتهم البشرية ، فانبروا إلى سلوك القطيع ثانيةً في شكل حملة قدح وتجريح وسبّ وشتم في حقّ أولئك الإعلاميين والمحلّلين بعد أن جاءهم الأمر من قادتهم ، بما أن القطيع بطبيعته لا يأتي أيّ فعل إلاّ بأمر قائده ولا يكفّ عنه إلاّ بإشارة منه .
وحتّى نبسّط بعض المصطلحات التي تغيب عن وعي العامّة ولا يأخذون من تسمياتها غير ظاهرها ويفهمون مدلولها في غير محلّها وسياقها ، سأتناول في هذه الأسطر مصطلح القطيع وأتساءل ما هي نظرية القطيع ؟ ومن أطلق عليها هذا المسمى؟
نظرية القطيع أو نظرية سلوك القطيع ، هو مصطلح يطلق على سلوك الشخص في الجماعة عندما يقوم بالتصرف بسلوك الجماعة التي ينتمي لها دون تفكير أو تخطيط . هذا المصطلح في الأساس يطلق على تصرف الحيوانات في القطيع أو السرب من الطيور خصوصاً عندما تستشعر بالخطر . وسلوك الناس في الحروب وفي المظاهرات وعند الشعور بالخطر وفي الحملات الانتخابية هي أمثلة عن سلوك القطيع.
أول من أطلق هذا المسمّى على هذا السلوك وصاغه كنظرية فلسفية علمية هو عالم الأحياء الأمريكي “هاملتون” وذكر فيها أن كل عضو في مجموعة ما ، يخدم نفسه بالدرجة الأولى ، حيث يقلّل الخطر عن نفسه بالدخول مع الجماعة والسلوك بسلوكهم . وهكذا يظهر القطيع بمظهر الوحدة الواحدة حيث يتبع الفرد الأضعف أو الأقل نفوذاً أو مالاً ، من هم أقوى منه وأشد نفوذاً ولنا في السياسة والسياسيين والفن والفنانين ورجال الدين ومشاهير الرياضة والتلفزيون أكبر مثال على ذلك .
وبالرغم من أن هذه النظرية مستحدثة إلا أنها موجودة في الطبيعة البشرية ، فالقرآن الكريم زاخر بالآيات الدالة على سلوك القطيع فنقرأ كثيراً (لكن أكثر الناس لا يعلمون) فقد دعا الإسلام لتحرير العقول وترك التبعية وإلى عمق التفكير واستقلالية القرار. (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون) تسعة فقط بيدهم القيادة والنفوذ يعني سياسيون، يسوقون القطيع والقطيع يصفق خلفهم ، والأمثلة كثيرة ابحثوا عنها ..
ومن الأمثلة على سلوك القطيع في تراثنا الزاخر قصة الأحنف بن قيس التميمي مع يزيد بن معاوية وكان أحد حكماء ودهاة العرب . إذ لمّا كان الحسن بن علي أميراً للمؤمنين دارت بينه وبين يزيد بن معاوية حرب تنازل فيها الحسن عن الخلافة ليزيد ، فدخل الأحنف بن قيس يبايع يزيداً بالخلافة وكان من أنصار الحسن بن علي وكانت زوجة يزيد تجلس وراء الباب تسمع ما يدور بينهما .
فقال الأحنف ليزيد : إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا ، وإن السيوف التي قاتلناك بها لفي أغمادها ، وإن تقبل للحرب شبراً أقبلنا لها ذراعاً . فسكت يزيد وتعجبت زوجته من كلامه ! ولما خرج الأحنف من مجلس يزيد قالت له : يا أمير المؤمنين لم سكتَ عنه؟ ولماذا لم تقتله ؟ فقال يزيد : ويحك يا امرأة ألا تعلمين من هذا ؟ قالت : لا ، فقال يزيد إنه الأحنف بن قيس التميمي الذي إذا غضب ، غضب معه مائة ألف سيف لا يسألونه لماذا غضب …
الجملة الأخيرة التي قالها يزيد تمثل سلوك القطيع في النفس البشرية وقد أدرك يزيد بدهائه أن الأحنف قائد للقطيع وأن وراءه مائة ألف رجل يخرجون معه للقتال لا يدرون لماذا خرجوا !! تلك كانت من أوضح الصور لسلوك القطيع التي قالتها العرب.
فسلوك القطيع في جانبه الجذّاب يتمثّل في حصول الشخص على التأييد لموقفه وتحقيقه لمصالحه الشخصية مستندا على الآخرين كما هي الحال عند القطيع ، وكذلك اتخاذ قراراته اليومية بناء على معارف وخبرات الآخرين، أمّا في جانبه السلبي والذي يسبّب أضرارا بالغة ، فيتمثل في تعطيل الشخص لتفكيره وتقاعسه عن اتخاذ قراره الشخصي بذوبانه في الآخرين ، ثم تعريض نفسه للأخطار والتي تصل لدرجة الموت كما يحدث في أعمال الشغب والتخريب ، بل وتعريض بلد بأكمله لمخاطر الانزلاق في الطائفية السياسية عند التصويت في الانتخابات بعقلية القطيع
وفي هذا السياق قال جورج برناردشو الكاتب المسرحي الانقليزي الشهير : سامحه ، فهو يعتقد أن عادات قبيلته هي قوانين الطبيعة ، وقال أيضا لو أن الناس تحدّثوا فيما يفهمونه فقط ، لبلغ السكوت حدّا لا يُطاق…
التعليقات مغلقة.