في مفهوم “القطيع”
رضا بو رخيس
قال لي صديق قديم جدا بعد قراءته لما أكتبه على الفيسبوك من نصوص تبحث ما استطاعت عن الحقيقة الموضوعية، انى أصبحت اليوم أنتمى الى “القطيع”. و رغم انه لم يعط لنفسه الوقت الكافي لقراءة نصوصي كاملة و التمعن فيها دون أحكام مسبقة وتشنج، فانى قبلت أن يدرجنى في ما سماه “القطيع”، احتراما لرأيه الذي لا ينقص من شخصى شيئا و لأن ذلك لا يفسد للود قضية و لأنى أنا نفسي ما زلت أتصارع كل يوم مع نفسي لمحاولة التشبع ب ثقافة ااتسامح و قبول الاختلاف والتعايش السلمي في المجتمع الامن و احترام الاخر. و هذا بالمناسبة تحليل متواضع لمفهوم “القطيع” : لما يتحدث بعض الناشطين السياسيين او الجمعياتيين المثقفين عن الفئات الشعبية المتوسطة الحال أوالفقيرة او المعدمة تماما والمساندة ل”مسار 25 جويلية” ، فانهم يصفونها أحيانا ب “القطيع” .
و”القطيع” ،كما تعلمون، كلمة تطلق في الأصل على الحيوانات التى تسيردون تفكير وراء الراعي. اما المعانى الحافة التى تحملها هذه الكلمة المهينة فهي “الطاعة” و “الاستكانة” و “الصمت” و “الخوف” و “عدم القدرة على التفكير” و “الحماقة او الحمق” و “غياب الذكاء و الفطنة” . و كل هذه المعانى لا تخبر في الواقع عن تلك الفئات الشعبية المحترمة التى لا ينقصها لا العقل ولا الحكمة ولا الثقافة ولا الذاكرة و انما هي تخبر –بفعل الارتداد – على النظرة السلبية و العنصرية المتوارثة منذ القدم والتى تلقيها بعض “النخب” الثقافية والسياسية و الميسورة ماديا (نسبيا) اوالمتوسطة الحال او الموصوفة ب “البرجوازية الصغيرة” او ب “البرجوازية الوصولية” على ما يسمي أحيانا “الشعب الكريم” او “الناس البسطاء” او “عموم الناس” او”أولاد بابله” او احيانا “الرعاع” و الذي تتعالى عليه و لا تتظاهر بالتعاطف (المغشوش) معه و محبته الا عند محاولة تجييشه وتأليبه او عند الانتخابات التى تحتاج فيها الى اصواته الحاسمة في سعيها الدؤوب و المتجدد للحصول على السلطة. و لما يرفض الاستماع لخطاباتها و الاعتقاد في برامجها و أهدافها والسير في مظاهراتها ويفضل عنها خصمها السياسي ومنافسها في السلطة فهي توصمه ب “القطيع” و تحمله غلطا مسؤولية خسرانها و قد تسخر أحيانا منه كاشفة عن العنصرية الطبقية و الاحتقار او “الحقرة” التى يبطنها فكرها ونفسيتها. و بطبيعة الحال ليس هناك من “قطيع” في منظورها الا من يوافق على اختيارات السلطة اويتعاطف معها او يتجنب انتقادها. أما من يفكر تفكيرها و يناصر أطروحاتها ويعتقد في أساطيرها و يسير وراء قياداتها فهو بالضرورة و في كل الحالات انسان “ذكي” و “فهيم” و “مناضل من أجل الحرية”و”ديمقراطي” و “استشراقي” و “مفكر”، و”تقدمي”، و”شريف” و “حر” و لا حرية للوطن الا على يديه.
ومن كان يجرى سابقا في “الشعب” الدستورية والتجمعية ويبرر الاستبداد البورقيبى والنفمبري والتعذيب الوحشي في السجون و الفساد الكبير لم يكن أبدا مجندا في “قطيع” ! ومن برر، بالكلام او بالصمت ، بالفعل او بالتحالف الموضوعي، كل الجرائم المشهودة والشنيعة ضد الوطن خلال عشرية الخراب الشهيرة التى ما زالت تونس تدفع ثمنها الباهض الى اليوم، لم يكن البتة سجين “قطيع” وانما كان ينعم بالحرية مع السلطة التى كان يدافع عليها أويناصرها والتى لم تكن فعلا تسجن معارضيها و انما تقتلهم في الشوارع كما تقتل الكلاب السائبة !
رحم الله شكري بلعيد ومحمد البراهمي و لطفي نقض و الجيلانى الدبوسي وكمال المطماطي وكل الأبرياء الذين قتلوا في الشارع بالرصاص مثلا يوم “الخميس الأسود” جدا 26 جانفى 1987 و يوم “أحداث الخبز” في بداية جانفي 1984.
و يبدو عند قراءة وابل السباب و التحقير والتقزيم والاتهام بالجنون على لافتات المتظاهرين وعلى الفيسبوك انه ليس أصعب على بعض الناس من مرض “الزهماير” (الذي يفقدهم ذاكرتهم فينسون الماضي او يتناسونه)، الا قبول الرأي المخالف. و تلك ثقافة راقية وعسيرة الاكتساب ما زلنا بصدد تحسس الطريق اليها بكثير من التعثروالصعوبات . و لكن ليبق الأمل .
التعليقات مغلقة.