لا معنى للديمقراطية دون رجال دولة ورموز …
بقلم : رشيد الكرّاي
في خضمّ الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد هذه الأيام ، وبقطع النظر عن فصولها وأطرافها والمسؤولين المباشرين عنها ، هناك أمر لا يختلف فيه اثنان في تونس وهو غياب بل فقدان المحنّك السياسي ، الرجل المخلص وصاحب النظرة الثاقبة الذي يملك الحنكة والرؤية السياسية الممزوجة بالوطنية الخالصة. الرجل الذي لا يرتبط إلاّ بالوطن بعيدا عن الحزبية والطائفية والمصلحة الشخصية .
طيلة عشر سنوات وتونس تفتقد لهذا الشخص والجميع يعلم بل متأكد من ذلك . نعم قد يظهر بين فترة وأخرى بصيص أمل ، كما كان الشأن مع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ، لكنه أمل سرعان ما انطفأ وتلاشى وسط تعدد الأزمات والحسابات والاتفاقيات والضغوطات التي غلبته على أمره وانتهت بوفاته قبل إنهاء عهدته الرئاسية ، وعادت البلاد إلى نقطة الصفر وما يشبه حالة الفراغ المستمرّة إلى اليوم .
صحيح أنه تمّ إسقاط نظام استبدادي تعسفي ظالم ، لكن ماذا حلّ محلّه ؟ نظام الكراسي والمصلحة واللّوبيات والفساد ، وحزب يبحث عن التفرد بالسلطة ويُعِدّ عشرات بل مئات الخطط عن كيفية الاستحواذ على مقدّرات البلاد ، بزعامة رئيس يفتقد لأدنى مقوّمات الكاريزما والحنكة السياسية لا يكاد ينطق بكلمة إلاّ وتعقبها عواصف من الانتقادات والاحتجاجات ومطالبات بعزله في البرلمان بل وداخل حزبه .
عدنا هكذا إذا مرة أخرى لنقطة الصفر ، والبحث عن المنجد ، عن المخلص الذي بإمكانه استمالة النفوس وإقناع الجماهير برؤاه في كنف احترام نظام الحكم الذي أقرّه الدستور على هناته وعلله .
يطلق على بعض الأشخاص كلمة قادة ورجال دولة ورجال سياسة ، وفلان رجل المرحله ، وتسميات ما أنزل الله بها من سلطان ، ولكن هل هم فعلا على قدر تلك المسمّيات ؟ الإجابة لدى الجميع هي كلاّ .
فهؤلاء ، وأعني بكلمة هؤلاء كلّ من تسلم وأمسك بزمام الأمور ابتداء من المجلس التأسيسي الذي لم نكن بحاجة إليه أصلا ، ورئيس الدولة ذاك الذي جعلنا أضحوكة في العالم أجمع ، مرورا بأول مجلس نوّاب متعدّد ورئيس منتخب وعهدة بخمس سنوات اتّضح أنها سراب وأضغاث أحلام انكسرت على وقع مشهد جديد هو أكثر قتامة وبشاعة لم تمرّ على ظهوره أكثر من سنة ونيّف ، وها هو يبشّر بضياع أكبر وإفلاس محتوم يؤثّثه خليط هجين من القوى الرجعية والعنيفة ولوبيات فساد مستشر لم يعد يرى غضاضة في الإمساك بكل مفاصل البلاد ، عنوانهم الواضح بالتجربة هو الفشل ، والسبب هو أنهم ليسوا برجال دولة وليس لديهم الوعي والفطنة والقدرة على إدارة البلد ، بل هم لا يستحقون إدارة بلديّة صغيرة في مدينة معيّنة . فهم يفتقرون إلى الثقافة الإدارية والوطنية حتى أن أغلبهم يفتقر إلى الدرجة العلمية ، وإذا به نراه عضوا مشرّعا لقوانين يحكم بموجبها بلد ، فكيف إذا نستطيع من خلالهم إدارة بلد فيه أكثر من 12 مليون ساكن بانتظاراتهم المتعددة في العيش كمواطنين .
المفارقة أن عصبة الهواة هذه كانت تنتقد رئيس النظام المُطاح به من أنه غير متعلّم ولا يملك حتى الباكلوريا ، لكنّهم يتناسون بأنه أحاط نفسه بخيرة الخبرات والكفاءات في كل المواقع تقريا ، وأنه كانت له من الكاريزما والحضور ما مكّنه من إمساك كل مؤسسات الدولة طيلة ثلاث وعشرين سنة رغم الهنات والسلبيات بل ورغم الفساد الذي استشرى في أواخر عهده ، وهو إلى ذلك سليل الدولة الوطنية التي أرساها زعيم تونس الخالد الحبيب بورقيبة ، ولم يخرج عن ثوابتها داخليا وخارجيّا ، بل ويعود له الفضل في إثراء ودعم ترسانتها التشريعية والقانونية .
هذا هو الخلل الرئيسي في تونس بغض النظر عن الفساد بمختلف أنواعه وصوره ، الخلل في تونس هو فقدان الكاريزما السياسية الوطنية المستقلة ، وغياب رجل يكون مفتاح المرحلة لمراحل أخرى .
والخلل الذي يفوق هذا الخلل هو ذاك النظام السياسي الهجين الذي أرساه “المنتصرون” من خلال دستور اتّضح في الحقيقة أنه أبشع دستور أُخرج في العالم ، قسّم السلطات بين بطون أكبر القبائل ليذهب دم الشعب الكريم هدرا بينهم ، فلن تجد من تسائل ولا من تحاسب ، ولتكون النتيجة كما نعيشها هذه الأيام تعطّل كامل لمؤسسات الدولة ، وصبيانيّات سياسية بلغت درجة القرف والقيئ ، وهي الأرضيّة الخصبة لظهور التيارات والشخصيات الشعبوية والتي لن تزيد الأوضاع إلاّ تعفّنا وتردّيا ، بل وتزداد قوّة وظهورا وثقة في أنفس اليائسين من أبناء الشعب والطبقات المفقّرة معرفيا ومادّيا ، وهي خزّانها الانتخابي على الدوام …
التعليقات مغلقة.