حين يستوطن كورونا الفساد في وسائل الإعلام …
بقلم : رشيد الكرّاي
أصبح ملف الفساد القضية رقم واحد في أولويات الأجندة السياسية والاجتماعية من خلال ما توفره وسائل الإعلام من تدفق هائل للمعلومات والآراء حوله ، وسط عاصفة الحراك الاحتجاجي غير المسبوق بأبعاده المحلية والاقليمية . المسألة التي لم نكن نحسب حسابها أن ينزلق الإعلام في لعبة توفير ملاذات وحاضنات اجتماعية لحماية الفساد.
إن نشر أخبار أو بيانات لجهات وتجمعات مصلحية أو فئوية تندد بشكل أو بآخر بتقديم هذا الشخص أو ذاك للعدالة أو مجرد فتح باب التحقيق في قضية ما ، يشكّل أداة ضغط في أيدي تلك الجماعات المصلحية التي تحاول توظيف العمق الاجتماعي لمصالحها على خلفيات العصبيات الفئوية والاجتماعية ، ما يعني مدى الحاجة الطارئة أن تتبنّى نقابة الصحفيين ميثاقا وقواعد تحريرية خاصة بتغطية وسائل الإعلام للفساد، تطلب صراحة من وسائل الإعلام تجاهل كل الأحداث ومحاولات الضغط التي تقصد حماية الفساد والفاسدين.
الإدراك السياسي بأن مواجهة العواطف الاحتجاجية والانفعالات الحادة في الشارع بهجوم كاسح على الفساد برموزه وأنشطته ومنابعه ، فيه الكثير من الحكمة،لأن هذا الملف هو الأكثر قدرة على استيعاب فائض الاحتقان في الشارع والانفعالات الحادة ، ولكن كلّ الخطورة بل ومنتهى الفساد السياسي أن تتحوّل هذه الحركة إلى مجرد تعبئة إعلامية هدفها تغيير أولويات الناس ، ولا تعبّر عن اتجاه أصيل في وقف وكشف هذه الظاهرة التي تعدّ الأخطر في تحديد مصير الدول والمجتمعات.
وبدل أن يكون الإعلام أداة متقدمة ورأس الحربة في المعركة ضد الفساد يتحوّل إلى أداة من أدوات تضليل الرأي العام والإفساد .
صحيح أن وظيفة الإعلام توفير فضاء حر لتدفق المعلومات، لكن يفترض أن توفر هذه الوسائل رصدا لما يجري في بيئتها من أحداث ، وهذا لا يتناقض مع المسؤولية الاجتماعية لهذه الوسائل ومع الدور الرقابي المنوط بعهدتها ، الذي يعني أن يوفّر الإعلام حصانة مجتمعية ضد الفساد لا الترويج للفساد وتخويف المجتمع والدولة وخلط الأوراق.
إلى هذا الحد كيف نقيّم قدرات الإعلام التونسي في تغطية قضايا الفساد وفي ممارسة دوره الرقابي في الكشف عن الفساد ، وفق المعايير المعروفة في دور وسائل الإعلام في إدارة الشفافية والمساءلة. ومع افتراض حسن النوايا فإن البيئتين العامة والداخلية لوسائل الإعلام المحلية ما تزال توصفان بضعف عام في تمثّل الأدوات المهنية كما هو الحال في الضوابط الأخلاقية ، فمن المؤسف أن أطرافا في المجتمع الإعلامي تنقسم في الصراع بين مراكز قوى متورطة وتدور حولها الشبهات، يا ترى من يجرؤ على استرجاع الاصطفافات الإعلامية والتخندق والمعارك التي شهدتها الصحف والمواقع الالكترونية خلال السنوات العشر الاخيرة في ضوء الحقائق التي تنكشف هذه الأيام ؟
لم نؤسس لمنظومة قانوية داعمة لعمل الإعلاميين ومؤسساتهم في القيام بالوظيفة الرقابية ، فمعظم التشريعات المنظّمة للعمل الإعلامي وذات الصلة به ليست صديقة لهذه المهمّة وعلى رأسها القانون العتيد (الحق في النفاذ إلى المعلومة) ، والذي يوصف بـ(قانون حجب المعلومات) ، بينما حدّث ولا حرج عن القدرات المهنية وما يرتبط بها من تقاليد ومعايير. لقد اعتدنا أن يركب الإعلام الموجة كلّما تمّ الكشف عن ملف فساد لأهداف سياسية أو لتصفية حسابات بين القوى المتصارعة على المصالح . وباستثناء حالات محدودة ، فإننا أمام ممارسات إعلامية غير مؤسَسَة على تقاليد المهنة وقواعدها في الاستقصاء والبحث والكشف ، كما يحدث في كل بلاد الدنيا التي تبني فيها المؤسسات الاعلامية حضورها الإعلامي والمجتمعي وقوتها السياسية من قدرتها على تمثّل هذه المبادئ كجزء أصيل من ممارستها. لدينا تاريخ مخجل لعدد من وسائل الإعلام جديدة وقديمة على حد سواء في مساندة الفساد والتستر عليه ، ولطالما جعلت بعض تلك الوسائل من فاسدين أبطالا ورموزا ، وجعلت من فاسدين مفاتيح للإصلاح والتحديث ، وبدونهم سنعود للعصور المظلمة ، ولطالما باعت إلينا وسائل إعلام ، فاسدين آخرين بأنهم حماة للوطن وأساطين في الانتماء إليه .
أو ليست هذه ، هي النّوايا المبطنة لتلك الكتلة المتغلّفة بالكرامة من مقصد مبادرتها التشريعيّة المشبوهة التي تلقّفها شيخ الجماعة المتربّع على عرش المؤسسة التشريعية بكل حماسة ، لتنقيح المرسوم 116 لمأسسة الفساد الإعلامي بكلّ تجلّياته السياسية والمالية وتضليل الرأي العام ؟
التعليقات مغلقة.