بقلم : رشيد الكرّاي
تعيش الساحة السياسية التونسية هذه الأيام على وقع قضية جديدة ما انفك يتعاظم صداها بين مناكفات ومخاتلات ومهاترات ، وكأن هذه الظواهر باتت قدرا محكوما علينا وعلى نخبتنا السياسية كلما تعلّق بالأمر بالخوض في شأن عام معين ينشد الجميع حلّه فإذا به يتحوّل إلى قضية مستعصية ، يستنهض فيها الكل جميع أسلحة تدمير الآخر من تخوين وتشكيك وتكفير ومحاولة استنفار رأي عام مُتعب بهمومه اليومية القاسية إلى صفّه ، مثلما يحدث الآن حول قضية تنقيح القانون الانتخابي أشهرا قليلة فقط قبل الاستحقاقات الانتخابية المبرمجة بداية من أكتوبر القادم .
والحقيقة أنه على وجاهة أسباب إدخال تنقيحات ضرورية على النظام الانتخابي حماية لديمقراطية ناشئة لم يشتدّ عودها بعد من أعداء الديمقراطية نفسها ممن يأكلون من ثمارها ويمنعون الماء على شجرها ، تكاد الأغلبية تقرّ بضرورتها لكن مع الاختلاف حول التوقيت وزمن بداية التطبيق ، حتى لا تبدو وكأنها صيغت ضد جماعات أو أفراد معيّنة . قيل سابقا، الأفكار الجيدة تأتي دائما متأخرة ، والمثل العربي القديم يقول خير البر عاجله. وتحدث العديد من الحكماء والزعماء من شتى الحضارات عن أهمية الزمن ومخاطر تمييع الوقت ، وتضييع الساعات والدقائق، فضلا عن الأيام والشهور، في وقت ليس هناك شيء أغلى من عامل الزمن وعنصر الوقت. أما من تدارك وقته وأسعفته الحكمة والحنكة بعد حين، فإن عليه دفع ثمن التأخير، ومع تحمله الثمن، تطغى سلبيات التأخير على إيجابيات الحل . فوات الأوان إذن هو آفة الحلول ، إذ ينعدم النفع منها إن جاءت متأخرة ، وما يؤسف أن هذا بات دأبنا الذي أدمناه فاعتدنا على التقاعس في استنهاض عقولنا في الوقت المناسب لإيجاد الحول والمخارج لما نقع فيه من مآزق في توقيت صحيح ، وما نجنيه اليوم هو زرعنا فيما مضى ، فما دمنا أسأنا في الزرع نحصد سوء فعلنا ، وقد قيل من يزرع الريح لا يجني غير العاصفة . ما سبق قوله ينطبق اليوم على الحالة التونسية ومسارها الديمقراطي الذي بات على المحكّ بعد التراجع المخيف لنوايا التصويت للأحزاب السياسية بمختلف ألوانها وصعود أفراد وتيارات شعبوية تستثمر في بؤس الفقراء ونوازع التدين الفطري لدى بعض الشرائح الاجتماعية .
واقع يطرح التساؤل حول توقيت وجدوى التعديلات المقترحة على القانون الانتخابي وإن كانت فعلا متأخرة وتُخفي بين طيّاتها حسابات سياسية للطرف المُبادر بها ؟ أيا كانت المبررات وحسن أو سوء نوايا أصحابها ، لا مفرّ من الإقرار ، بأنه خلافا لمن يذهب في التقليل من شأن التيارات الشعبوية ورموزها ، عليه الانتباه أن الشعبوية مسنودة اليوم بثورة الاتصالات وإعلام التواصل الاجتماعي بل وفي واقعنا التونسي بوسائل إعلام تقليدية ، وهي تبني لنفسها قواعد اجتماعية وثقافية صلبة . لقد حوّلت الكراهية كسلوك منبوذ للثقافة والعداء للآخر جرّاء وعود تنموية لم تأت ، إلى برامج سياسية تنافس في الانتخابات وتربح .
ولقد ربحت بالفعل في أمريكا والبرازيل ودول أوروبية عريقة كإيطاليا وآخرها أوكرانيا ، وبيئتنا التونسية الحالية تؤهلها للربح تماما كما أهلت تيار الإسلام السياسي سنة 2011 للربح تحت شعار ” الناس اللّي هاربة لربّي” . يقال في تحليل ظاهرة الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة أنها رد فعل جماهيري على انهيار المنظومة القيمية للنخب والأحزاب المهيمنة في البلدان الديمقراطية .
هذا التقدير صحيح لحد كبير ، لكن ما الذي يدفع بالناخبين لاستبدال أحزاب شاخت بحركات شعبوية طائشة لا تملك غير الشعارات الفارغة ؟ إنها حالة اليأس الجماعي إزاء وعود لم يُوفَ بها وحلول لم تأت رغم وجاهة الإكراهات في كثير من الأحيان . وهكذا يصبح الرهان إذن ، هو أن الديمقراطيات سواء العريقة منها أو الناشئة قادرة على تصحيح أخطائها وتصويب مشاكلها بنفس الوسائل والأدوات الديمقراطية ، لكن ذلك لا ينفي الأخطار المحدقة بالديمقراطية ولعبة الصناديق الانتخابية . الديمقراطية قيم إنسانية ، إذا ما انفصلت عنها تحوّلت إلى لعبة قاتلة تجلب معها لسدّة الحكم المغامرين والأشرار واللصوص والمجرمين
ألم تجلب الديمقراطية هتلر وموسيليني من قبل في ألمانيا وإيطاليا ، وترامب في أمريكا والممثل الكوميدي زيلينسكي في أوكرانيا اليوم …
التعليقات مغلقة.