الديمقراطية وعي أو لا تكون !
بقلم : قيس بن نصر
” تحيا الديمقراطية ” بهذه الجملة القصيرة أنهى رئيس الحكومة يوسف الشاهد ، خطابه الموجز الذي توجه به إلى الشعب التونسي و مختلف المكونات السياسية بعد حل الأزمة التي كانت قائمة بين جامعة التعليم الثانوي و وزارة التربية ، هذا من باب التذكير للشعار الجديد الذي إستعمله رئيس الحكومة في كلمته عوضا عن الشعار القديم ” تحيا تونس ” لأنه أبتعد عن التوظيف الحزبي بما أن مشروع حزبه المزمع إحداثه ، و هذا من باب التذكير كما قلت لأننا سوف لن نخوض في تحليل خطاب رئيس الحكومة و لكننا سنخوض في مسألة الممارسة الديمقراطية و تمثلاتها الواقعية في الواقع السياسي الحالي في تونس.
يدرك الجميع أن الديمقراطية كان مطلب جميع الناشطين السياسيين من فئة المعارضة في فترة النظام السابق مع بن علي أو في فترة النظام الأسبق مع بورقيبة ، كما يدرك الجميع أيضا أن تمثلات الديمقراطية في حرية التنظم الحزبي أو المدني و في حرية التعبير و الإختلاف تكريسا لمبدأ التداول على السلطة و العدالة الإجتماعية و التوازن بين الجهات و الإستفادة بالتساوي من ثروة المجموعة الوطنية و على هذا الأساس كان نشاط المعارضين من مختلف الإيديولوجيات السياسية قائما في السابق من أجل تحقيق الحد الأدنى من مبادىء الديمقراطية التي ذكرتها ، متحملين ما يلحقهم من أذى و تداعيات وخيمة من قبل النظام القائم .
أصبح بعد الثورة و بعد سقوط النظام السابق مطلب الديمقراطية متاحا للجميع و خرجت الأحزاب المحظورة سابقا من السر إلى العلن كما تشكلت العديد من الأحزاب الجديدة من كل حدب و صوب بمختلف الأهداف و الإيديولوجيات و الأنماط المفهومة و الغير المفهومة و أصبحت الطبقة السياسية الجديدة تنظر صباحا مساءا للديمقراطية و العدالة و التنمية و الذكاء السياسي و الحوكمة الرشيدة ، بينما في واقع حالها هي أبعد ما يكون عن الديمقراطية و الدليل على ذلك كل الظواهر الغير ديمقراطية تواجدت في المشهد الحزبي في تونس وهي كما يلي : أحزاب سياسية بلا مؤتمرات ، أحزاب سياسية تشهد إنشقاقات كلما حدث إختلاف في الرأي ، أحزاب لا تؤمن أصلا بالإختلاف و تمارس الإنظباط الحزبي النهائي الغير قابل للنقاش ، أحزاب تنجز مؤتمرات شكلية لأنها تكرس سياسية الإجماع ، أحزاب تتشكل من أجل مصلحة أقلية من أفرادها ….
إذا لا يختلفان إثنان أن كل هاته الظواهر الغير ديمقراطية التي ذكرتها لا يمكن أن تنتج أحزاب بنفس و عمق و ممارسات ديمقراطية بل بالعكس فقد أنتجت من جديد و بطرق أخرى استبدادا ضمني يتمثل في عدم التدوال على السلطة داخل الأحزاب و التمسك بالنفوذ و الصلاحيات ، و في عدم تكريس لمبدأ الإختلاف و التعبير عن الرأي بكل حرية الذي من شأنه يحقق النقد البناء الذي بدوره يساهم في التطور و الرقي الفكري السياسي ، فأخلاق الديمقراطية و مقوماتها الغائبة داخل الأحزاب هي التي ساهمت بصفة مباشرة و عميقة في عدم جودة العمل السياسي خاصة على مستوى التشريعي و التنفيذي قبل و بعد دستور 2014 ، لقد شهدنا كم من مرة محاصصات حزبية ضيقة ، تعطل و تؤخر و تؤجل مشاريع قوانين ذات أولوية حارقة للشعب التونسي ، إلى جانب إسقاط الحكومات بتعلات حزبية ، و تأخر تشكيلها فيتعطل دورها التنفيذي و الترتيبي ، إلى جانب المحصصات التي لا زالت قائمة لتشكيل المؤسسات الدستورية و أهمها المحكمة الدستورية أحد المكونات الأساسية للعملية التشريعية عموما.
الممارسة الديمقراطية ، تقتضي النقاش الفكري و السياسي العميق و الحوار الراقي بين الرأي و الرأي الأخر من أجل جودة الرأي و الإستراتيجية الناجحة و المشروع السديد و السليم … و لكن للأسف الشديد غابت كل هذه الحيثيات الديمقراطية في المشهد السياسي بعد الثورة التي من شأنها أثرت على دور مؤسسات السلطة ، فكان التأثير سلبيا على المستوى الإقتصادي ، فإرتفع العجز في الميزانية و الميزان التجاري و العملة و التشغيل و التنمية و رأينا العجب العجاب في المشهد الوطني و كما قيل ” إذا عرف السبب بطل العجب ” …أغلب الحساسيات و الأحزاب السياسية تهتف بطريقة أو أخرى بالديمقراطية ، و تحسب أن تحقيق الديمقراطية ، ينحصر في منطق الأغلبية و التصويت و صناديق الإنتخابات فقط بينما أن الديمقراطية تمارس بكل هاته الأليات المذكورة نعم و لكن قبل ذلك هي فكر عقلاني ، مستنير ، يؤمن بحرية الإختلاف و التعبير و يدافع على العدالة و تداول الأفكار و المبادرة ، أي الديمقراطية هي وعي قبل أن تكون نظام حكم و لذلك تبقى الشكل السياسي الأكثر تطورا الذي أنتجه العقل البشري …
يقول عالم الإجتماع الفرنسي جان جاك روسو في مسألة الديمقراطية : “ الرصيد الحقيقي للديمقراطية ليست في صناديق الإنتخابات فحسب ، بل في وعي الناس “ ، المقصود هنا بالناس ، فئة النخبة السياسية و فئة الشعب ، النخبة السياسية في المستوى الأول لأنها تتموقع في القيادة و الريادة و على هذا الأساس يجب أن مؤثرة إيجابيا بدرجة أولى في تصدير كل الخلفيات الثقافية التي تخدم مفاهيم و أخلاقيات و مقومات و روح و فكر الديمقراطية و فئة الشعب التي من المفترض أن تتفاعل إيجابيا مع كل الممارسات الديمقراطية و تنسج على منوالها في إطار الحرية و إحترام القانون .
أخيرا يمكن القول أن الممارسة الديمقراطية ، يجب أن تكون من رحم وعي فكري ديمقراطي عميق يتجاوز منطق التصويت في العمليات الإنتخابية و الحصول على الأغلبية لكي تكون هاته الأغلبية هي أداة للسلطة أولا ثم تتحول بعد ذلك إلى أدوات إلى التغول و الإستبداد و الإنحياز للمصالح الخاصة ، فالديمقراطية لا تستمر في ظل تجاذبات حزبية ضيقة و محاصصات بعيدة على المصلحة الوطنية و ممارسات سياسوية غير بريئة تجاه الوطن ، كالحال الذي نعيشه اليوم ، و إذا تواصل هذا الحال فإننا سنحقق ديمقراطية و لكنها مزيفة ، لأن التاريخ أثبت أن الديمقراطية وعي أولا تكون !
التعليقات مغلقة.