تراجع مظاهر التدين في تركيا وارتفاع نسبة الإلحاد
خضع الأتراك طوال العقدين الماضيين لحكم حزب غارق في الإسلام السياسي، لجأ إلى استخدام أدوات دينية – سياسية في كل ما يتعلق بقراراته الداخلية والخارجية. لكن الغريب في الأمر هو ما خلص إليه استطلاع حديث حول المعتقدات الشخصية للسكان الأتراك، أفاد أن “مستويات التقوى الدينية أصبحت مسطحة أو منخفضة أو حتى متناقضة، مقارنة بما كان عليه الحال قبل عقد من الزمن”.
قد لا يكون هذا التحوّل الظاهر زلزاليًا، لكنه يشير إلى أن الأتراك يتحدثون ويعترضون على ما توجهت إليه بلادهم من ناحية السياسة المصبوغة بالدين.
هذا الاستطلاع، الذي أجرته مؤسسة “كوندا” التركية البحثية – الاستشارية، بمثابة متابعة لاستطلاع مماثل أجري عام 2008، أشار بوضوح إلى “اشمئزاز” الأتراك العاديين من استخدام النظام الحاكم للدين من أجل السياسة. وقد أجرت المؤسسة تحليلًا على النتائج من كل الجوانب من أجل توضيح المقارنة.
ويرى محللون أتراك أن هذا التحول عبارة عن رد فعل عنيف، لا سيما بين الشباب، ضد توجهات الرئيس التركي المتدين وضغوطه من أجل تشكيل ما وصفه بـ”الجيل المتدين”. كما يرى خبراء أن ابتعاد الشباب التركي عن التفاني الديني هو ردة فعل طبيعية على نهج الإسلام السياسي التركي الذي يزعجهم بشكل واضح.
تفيد البيانات في الاستطلاع أن نسبة الذين يعرّفون أنفسهم بـ”ورعين” أو “تقيين” أو “متدينين” انخفضت من 68% في عام 2008 إلى 61% في عام 2018، وفي المقابل، ارتفعت نسبة “غير المؤمنين” إلى 2% و”الملحدين” إلى 3% عام 2018، بعد أن كانتا غير ملحوظتين في عام 2008.
علاوة على ذلك، انخفضت نسبة من يطلقون على أنفسهم “محافظين دينيين” من 32% إلى 25%، كما انخفضت نسبة من صاموا شهر رمضان من 77% إلى 65%.
كما يظهر الاستطلاع تغييرًا واضحًا في العادات الاجتماعية – الدينية الأخرى، فقد انخفضت نسبة أولئك الذين يعتقدون “بوجوب عقد زواج ديني بين الشاب والفتاة من أجل العيش معًا” من 74% إلى 69%، وهو شيء صادم يظهر بلا شك ردود فعل عكسية على التوجهات الحكومية الدينية.
في ظل الأرقام والمعطيات السابقة، يمكننا طرح السؤال التالي: بينما انخفضت نسبة من يصفون أنفسهم بـ”المؤمنين” و”الورعين” و”المتدينين”، لم تعمل هذه الشريحة على إعادة انتخاب القادة السياسيين الذين يقحمون الدين بالسياسة الداخلية بدرجة أولى، والخارجية بدرجة ثانية، فكيف يمكن قراءة هذا التناقض؟
يقول المحللون إن الرئيس رجب طيب إردوغان وحزب العدالة والتنمية ركزا بشكل قوي على الاقتصاد في حملاتهما الانتخابية، ما دفع المصوتين إلى انتخابهم. وفي الوقت ذاته، شرعت الحكومة في تعزيز التوجهات الدينية التي تخدم السياسة التركية بشكل تدريجي وغير مباشر، في ظل إبراز النمو الاقتصادي بشكل متزامن. وبالطبع، إن ما يهم الناخب التركي في المقام الأول هو الاقتصاد، وليس السياسات المدفوعة بالإسلام السياسي. وقد أبرز الاستطلاع المذكور أن نسبة التركيز الحكومي على التعليم الديني ازدادت حدة مقارنة بالسنوات السابقة.
في فيديو رسمي عام 2017، احتفل إردوغان بالنمو الكبير في عدد من مدارس “إمام خطيب” الدينية الممولة من الدولة، التي تخرّج منها هو شخصيًا في صغره. كانت هذه المدارس في عام 2017 تدرّس حوالي 1,3 مليون طالب في جميع أنحاء تركيا. وقال إردوغان في مقطع الفيديو: “نشأ في هذه المدارس رؤساء بلديات، ووزراء، ورؤساء وزراء، ورؤساء، في ظل تعليم ديني”.
أجرت الإذاعة الأمريكية العامة مقابلات مع عدد من الأتراك القاطنين في الأراضي التركية، من أجل البحث في التوجه الديني الشعبي المناقض للتوجهات الحكومية. الصحفية التركية “بصرى سيبيشي” قالت: “نشأت أنا وجيلي في ظل زعيم واحد، هو إردوغان عندما صعد إلى السلطة كرئيس للوزراء عام 2003. علمونا أن نضع الحجاب على رؤوسنا في سن المراهقة دون أي احتجاج منا. بدأنا في التساؤل عندما كبرنا، وها نحن نخلع الحجاب برغم كل التحديات”.
ويشير الاستقصاء الأخير إلى أن هنالك ارتفاعًا كبيرًا في نسبة النساء اللاتي قررن خلع الحجاب، بشكل متزايد منذ عام 2008 حتى عام 2018.
يقول المحللون إن انخفاض السلوكيات الدينية في صفوف الشعب التركي ينبغي ألا يكون مفاجئًا برغم المحاولات الحكومية الحثيثة لترويجها، “ومن المحتمل جدًا أن يكون السبب في ذلك هو عدم تقديم دين مجرد، أو تعليم إسلامي حقيقي بعيدًا عن صبغه بالسياسة”، بحسب أحد الخبراء الأتراك.
ويؤكد لنا أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة كوك التركية، مورات سومر، أن “الجهود الحكومية النشطة والمكلفة للغاية لتعزيز الدين واجهت إخفاقًا ولم تحظ بتأثير كبير”. وأضاف أن “السياسة الحكومية الدينية تنفّر الناس من الدين وتبعدهم عن أداء الشعائر الإسلامية”.
وأشار “سومر” كذلك إلى أن الشباب باتوا يبتعدون عن الواجبات الدينية مثل الصوم، لكنهم واظبوا على “الصلاة العلنية” مثل “صلاة الجمعة”، وهو ما يشير إلى أن الدين “أصبح وسيلة تعبيرية رمزية خالية من التقوى الحقيقية”.
أجرينا مقابلة مع المحلل “سونر كاغابتي” من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، قال لنا إن “الشباب التركي أظهر ردود فعل عكسية على توجهات إردوغان الذي أعلن صراحة عزمه بناء جيل من المتدينين”. وأضاف أن “السبب في نتائج هذه الاستطلاعات يعود إلى أن إردوغان استبدل قوة السلطة بهويته الخاصة بمساعدة الدين، ما حفز الكثيرين إلى بغض الدين”.
وأردف كاغابتي قائلًا: “تشير هذه الاستطلاعات إلى أن محاولات إردوغان لخلق بلد متدين أدت إلى نتائج عكسية تمامًا”. وبكلمات أخرى، “أدت سياسات إردوغان إلى جعل تركيا أقل تدينًا على عكس ما كان يتمناه”.
وأخيرًا، تقول إحدى الفتيات التي خلعت الحجاب: “أنا لا أكره الإسلام، لكنني أحاول مواجهة السياسات الحكومية الساعية إلى خلق جيل متدين محافظ، وهذا ما أقف ضده”.
المصدر: ترجمة موقع “كيو بوست” عن شبكة الإذاعة الوطنية العامة الأمريكية
التعليقات مغلقة.