“سياحة القنص”… أثرياء أوربيون قاتلوا في سراييفو من أجل المتعة
حلقة وصل _ فريق التحرير
بعد نحو 29 عاماً، منذ حصار سراييفو، أطول حصار في الحروب الحديثة، فتح الادعاء العام في ميلانو تحقيقاً يزعم أن سياحاً أثرياء من أوروبا دفعوا لأفراد من الجيش الصربي البوسني مقابل فرصة الاستمتاع بإطلاق النار على سكان المدينة المحاصرة، فيما تسمى بـ”سياحة القنص”.
والأمر المثير الذي نشرت عنه صحف إيطالية، ونقلته “الغارديان” البريطانية لم يكن حديث اللحظة، إذ جاء للمرة الأولى من فيلم بعنوان “سفاري سراييفو (Sarajevo Safari)، وهو فيلم وثائقي من إنتاج عام 2022، أخرجه المخرج السلوفيني ميران زوبانيتش (Miran Zupanic).
ويروي الفيلم اعترافات صادمة عن جنود صرب يزعمون أن مجموعة من الأجانب من الدول الغربية قد اشترت موقعاً للقنّاصين لدى القوات الصربية البوسنية لإطلاق النار على المدنيين، بما في ذلك الأطفال، مقابل أموال باهظة.
والفيلم عُرض للمرة الأولى في مهرجان “الأوثونوموس” للأفلام الوثائقية في ليوبليانا – سلوفينيا، في أكتوبر (تشرين الأول) ثم على بعض القنوات الأوروبية مثل RTV Slovenija، ولاحقاً في مهرجانات دولية للأفلام الوثائقية.
وقدم كاتب إيطالي شكوى رسمية إلى نيابة ميلانو في أواخر العام الجاري، قبل أن يُعلن بصورة رسمية هذا الشهر عن فتح التحقيق في القضية المثيرة للجدل.
والكاتب الإيطالي هو إتسيو غافاتسيني (Ezio Gavazzeni) وهو صحافي استقصائي من مدينة ميلانو، جمع شهادات ووثائق تتعلق بما سماه “سياحة القنص في سراييفو” وقدمها للنيابة الإيطالية لتعود القضية التي ترجع لثلاثة عقود إلى الواجهة.
وحصار سراييفو استمر نحو أربعة أعوام 1992–1996 من القوات الصربية البوسنية لمنعها من الانفصال والسيطرة عليها.
واعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن يوغوسلافيا وكرست استقلال الدولة البوسنية بحدودها الحالية وانتهى الحصار في فبراير (شباط) 1996 بعد اتفاق دايتون للسلام 1995.
سياحة القنص
من بين الأحداث الدرامية الدامية التي شهدها حصار سراييفو، ظلت قصة رحلة سفاري بشرية طي الكتمان، ولم يكن يعلم كثر أن من يقاتلون إلى جانب الصرب ليسوا جيش صرب البوسنة وحسب، بل أيضاً مجموعة صغيرة سرية، عبارة عن أجانب أثرياء دفعوا مبالغ طائلة مقابل فرصة إطلاق النار على سكان المدينة المحاصرة.
وقُتل أكثر من 10 آلاف شخص في سراييفو بفعل القصف المستمر ونيران القناصة خلال أعوام الحصار الأربعة.
وكان القناصة الأثرياء الذي جاؤوا لممارسة مهمة ممتعة بالنسبة إليهم “ربما كانوا أكثر رعباً من المقاتلين الحربيين”، وفق ما كتبته “الغارديان البريطانية”، إذ كانوا يختارون ضحاياهم عشوائياً من المارة في الشوارع، بما في ذلك الأطفال، وكأن الأمر لعبة فيديو أو رحلة سفاري.
إيطاليون وجنسيات غربية أخرى
وجهت الاتهامات إلى مجموعات من الإيطاليين وجنسيات غربية أخرى، يُطلق عليهم “سياح القنص”، قالت التقارير التي نشرتها صحف إيطالية، بجانب الصحيفة البريطانية “بأنهم شاركوا في المجزرة بعدما دفعوا مبالغ كبيرة لجنود من جيش رادوفان كارادجيتش – الزعيم الصربي البوسني السابق الذي أُدين عام 2016 بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية – من أجل نقلهم إلى التلال المحيطة بسراييفو ليطلقوا النار على السكان للمتعة فقط”.
وسراييفو تقع في حوض تحيط به الجبال، مما جعل حصارها ومهاجمتها أمراً سهلاً نسبياً.
ويقود المدعي العام أليساندرو غوبّي التحقيق في ميلانو، والهدف هو تحديد هوية الإيطاليين المشتبه فيهم بتهم القتل العمد المشدد بالقسوة والدوافع الدنيئة.
“سفاري سراييفو”
يقول الكاتب الإيطالي غافازيني الذي تقدم بالشكوى، إنه قرأ للمرة الأولى عن مزاعم “سياحة القنص” في الصحافة الإيطالية خلال التسعينيات، لكنه لم يبدأ البحث الجدي إلا بعد مشاهدته الفيلم الوثائقي “سفاري سراييفو”.
وفي حديثه لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية، يقول غافاتزيني “كثيراً كثيراً كثيراً من الإيطاليين، مائة على الأقل” يُزعم أنهم متورطون، من دون تحديد عدد دقيق، وأضاف “كان هناك ألمان وفرنسيون وإنجليز… أشخاص من جميع الدول الغربية دفعوا مبالغ كبيرة تصل إلى إلى 100 ألف يورو (88 ألف جنيه إسترليني) بأسعار اليوم. ليؤخذوا إلى هناك لإطلاق النار على المدنيين”.
ويزعم الفيلم الذي عاد للسطح مجددا، أن “المتورطين في عمليات القتل جاءوا من عدة دول، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وكذلك إيطاليا”.
“اللامبالاة بالشر”
أضاف غافاتزيني “لم تكن هناك دوافع سياسية أو دينية، كانوا أناساً أثرياء ذهبوا بدافع المتعة والإشباع الشخصي، نحن نتحدث عن أشخاص يحبون الأسلحة، ربما يذهبون عادة إلى ميادين الرماية أو في رحلات سفاري في أفريقيا”.
والمشتبه فيهم من أبناء جلدته الإيطاليين كانوا يجتمعون في مدينة ترييستي شمال إيطاليا ثم يسافرون إلى بلغراد، وفق قوله، حيث كان جنود صرب البوسنة يرافقونهم إلى تلال سراييفو، ويقول “كان هناك تدفق من سياح الحرب الذين يذهبون إلى هناك لإطلاق النار على الناس”.
ولم يجد الكاتب الذي يحمل قضية قارب عمرها الـ30 عاماً، وربما بعض أصحابها ماتوا، وصفاً أدق من قوله هذا ما يمكن تسميته بـ”اللامبالاة بالشر”، وأضاف أنه تمكن من تحديد هوية بعض الإيطاليين المزعوم تورطهم، ومن المتوقع أن يُستجوبوا من قبل الادعاء خلال الأسابيع المقبلة.
ومن أشهر ضحايا القناصة في تلك الحرب بوسكو بريكيتش وأدميرا إيسميتش، وهما ثنائي قُتل عام 1993 أثناء محاولتهما عبور جسر، وتم توثيق قصتهما في الفيلم روميو وجولييت في سراييفو، وبقيت جثتاهما في منطقة “اللامكان” بين مواقع القوات البوسنية والصربية أياماً عدة، وأصبحت صورهما رمزاً لعشوائية ولا إنسانية الحرب.
أما الشارع الرئيس المؤدي إلى سراييفو، شارع ميشا سليميتش (Mesa Selimovic Boulevard)، فكان يُعرف باسم “زقاق القناصة – Sniper Alley” بسبب خطورته الشديدة، لكنه لم يكن قابلاً للتفادي لأنه الطريق الوحيد إلى مطار سراييفو.
وتعرض الترام والحافلات لإطلاق النار على نوافذها، وانتشرت في كل مكان لافتات تحذيرية من القناصة، يقول المحامي الذي ساعد غافازيني في إعداد القضية نيكولا بريجيدا “الأدلة التي جُمعت بعد تحقيق طويل من قبل غافازيني قوية ومتماسكة، وقد تقود إلى تحقيق جاد لتحديد الجناة، وهناك أيضاً تقرير من عمدة سراييفو السابقة يدعم الملف”.
وسراييفو هي عاصمة البوسنة والهرسك، تقع في جنوب شرقي أوروبا داخل منطقة البلقان، وتحيط بها جبال عالية، وهو ما جعل حصارها طويلاً وصعباً.
التعليقات مغلقة.