تقرير تحليلي: النقل العمومي في تونس – أزمة دولة أم فشل منظومة؟
حلقة وصل- بقلم سمية دريدي
في تونس، لا يُعدّ التنقل من حيّ إلى آخر، أو من مدينة إلى العاصمة، مجرد عملية روتينية، بل تجربة يومية محفوفة بالتعب والتوتر والانتظار اللامتناهي. فالنقل العمومي، الذي يُفترض أن يكون شريانًا للحياة الاقتصادية والاجتماعية، تحوّل إلى نقطة اختناق كبرى تُعمّق الفوارق وتُنهك المواطن.
الواقع اليومي… بين هشاشة الوسائل وتآكل الثقة
كل صباح، وفي مختلف مناطق البلاد، يتكرّر نفس المشهد: محطات مكتظّة، حافلات متهالكة، قطارات متأخرة، وركّاب يفترشون الأرصفة انتظارًا لوسيلة نقل قد لا تأتي. يُضاف إلى ذلك غياب التكييف، نقص الأمن، وسوء التعامل، ما يجعل المواطن يعيش معاناة يومية في التنقل، سواء كان تلميذًا، طالبًا، عاملاً أو متقاعدًا.
في الأحياء الشعبية كما في الأرياف، يُشكّل غياب النقل المنظّم عائقًا حقيقيًا للنفاذ إلى التعليم، إلى العمل، وحتى إلى العلاج. وهو ما أنتج مع مرور الوقت فقدانًا شبه كامل للثقة في النقل العمومي، وتحوّلًا متسارعًا نحو النقل العشوائي أو الخاص مهما كان الثمن.
أزمة منظومة متكاملة… عجز مالي وغياب حوكمة
وراء هذا المشهد الظاهري، تختبئ أزمة هيكلية عميقة. فالأسطول المتوفر لدى شركات النقل العمومي، على غرار “Transtu” و”SNCFT”، يعاني من اهتراء تجاوز كل المعايير المقبولة. أكثر من 60% من الحافلات والقطارات تجاوز عمرها التشغيلي، والصيانة لا تتم بانتظام، بسبب نقص قطع الغيار وضعف الميزانيات المخصّصة.
تُسجّل هذه الشركات عجزًا ماليًا مزمنًا، في ظل ارتفاع الكلفة التشغيلية، وتراجع المداخيل، وعدم تعويض الدولة للخدمات المجانية التي تُقدَّم للطلبة وكبار السنّ. هذا الوضع أدّى إلى تآكل قدرات التجديد والاستثمار، وفتح المجال أمام شبكات النقل الموازي (تاكسي جماعي، لواج، نقل ريفي) التي تشتغل خارج القانون في كثير من الحالات، لكنها أصبحت الخيار الوحيد لشرائح واسعة من المواطنين.
إضافة إلى ذلك، يُشير كثير من المراقبين إلى غياب الشفافية في الصفقات العمومية، ووجود شبهات فساد وسوء إدارة عطّلت محاولات الإنقاذ وأفشلت برامج التطوير.
غياب الرؤية والإرادة السياسية… مشاريع حبيسة الأدراج
منذ سنوات، تُطلق الحكومات المتعاقبة الوعود بإصلاح شامل لمنظومة النقل العمومي: تحديث الأسطول، رقمنة الخدمات، تطوير شبكات المترو، الربط بين المدن والجهات، والتوجه نحو النقل المستدام. غير أن أغلب هذه المشاريع بقيت مجرّد مخططات على الورق، إما بسبب نقص التمويل، أو غياب الإرادة الجدية للتنفيذ، أو نتيجة لتداخل الصلاحيات بين الوزارات والبلديات.
التمويلات الأجنبية المرصودة من شركاء دوليين مثل البنك الأوروبي للاستثمار، لم تُوظف دائمًا بطريقة فعالة. كما أنّ غياب استراتيجية وطنية واضحة أدّى إلى فشل في استغلال الإمكانيات المتاحة، وتشتّت الجهود الإصلاحية.
في المقابل، يتطلب إصلاح النقل العمومي إرادة سياسية حقيقية، تتجاوز الحسابات الظرفية، وتستند إلى رؤية متكاملة تُشرك كل المتدخلين، بما في ذلك المجتمع المدني والمواطنين أنفسهم، لضمان خدمات ذات جودة وعدالة في التوزيع الجغرافي.
أزمة النقل العمومي… أزمة كرامة قبل أن تكون أزمة لوجستية
في بلد ترتفع فيه نسب البطالة، وتتسع فيه الفوارق الجهوية، يصبح النقل العمومي أداة مركزية لتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية. لكن في تونس، لا يزال هذا القطاع في وضعية هشّة تُقارب الانهيار.
إن إنقاذ منظومة النقل لا يحتاج فقط إلى تمويلات، بل إلى تغيير جذري في طريقة التفكير والتخطيط، وإلى مقاومة فعلية للفساد والمصالح الضيقة. لأن المسألة لم تعد تقنية أو إدارية فقط، بل هي مسألة كرامة مواطن، وفاعلية دولة.
التعليقات مغلقة.