أين نحن من : “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”
حلقة وصل
كم أصبحت أشفق على لفظة القانون وكثرة ترديدها على كلّ الألسن ، الغنيّ والفقير ، النخب والعامّة ، الساسة والجمهور ، الكل ينتصر للقانون وسلطانه ، ويدّعي أنّه فوق الجميع ويُطبّق على الكل على حد سواء ودون تمييز ، ولكن أين نحن من هذا ، ونحن نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا ونشتمّ بأنوفنا ونتلمّس بأيادينا ما يحدث ويجري في ساحتنا السياسية وفي محاكمنا، ما يُعمي الأعين ويصمّ الآذان ويزكم الأنوف ويشلّ الأيادي
والمعلوم أن العدل ، هو إعطاء الحقوق لأصحابها ، و إجبار الكل على أداء الواجبات دون تمييز، كما أنه هو الإنصاف ، وإعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه ، ويكون ذلك مع كل الناس غنيّهم وفقيرهم ، قويّهم وضعيفهم ، الرئيس والمرؤوس ، الحاكم والمحكوم.
لكن بالنظر إلى واقعنا الذي لا يمكن حجب شمس حقيقته بالغربال، فالناس ليسوا سواسية أمام القانون كأسنان المشط ، وليس القانون فوق الجميع كما علمونا منذ نعومة أظافرنا، وكما يشنّفون أسماعنا كلما وطأت أرجلنا أقسام البوليس أو ردهات المحاكم .
في محاكمنا تحمي المناصبُ الرفيعة وغير الرفيعة أصحابَها ومقرّبيهم ، وفي تونسنا العجيبة ، يكفي اسم راقصة كباريهات لكي تمر نار القانون بردا وسلاما على الغارقة في الجريمة حتى أذنيها، لكن مطرقة نفس هذا القانون تنزل كسيف حادّ على رأس ناشطة مجتمع مدني خرجت للشارع للتنديد بالتضييق على الحرّيات والممارسات البوليسية الظّالمة ، بتهمة تلك العبارة البائسة الفضفاضة “هضم جانب موظّف أثناء أدائه لوظيفه” التي باستطاعة كل عون أمن أيّا كانت درجته ، سحبها من الدّرج وإلباسها لأيّ مواطن لم يرق له أو كان في غير مزاجه ، ويكون الشاهد على الواقعة زميله في الدوريّة الأمنية أو السيارة الوظيفيّة .
قانون الطوارئ الساري منذ سنوات ، وقانون منع الجولان في فترات محدّدة لمجابهة جائحة كورونا والحجر الصحّي الجزئي ومنع التنقلات بين المدن والولايات ، كلّها قوانين تنتقل إلى جوار ربّها حين يحضر الكبار في تجمّعات ومسيرات بالآلاف لاستنفار الأنصار وتسجيل النقاط على حساب الخصوم السياسيين ، لكنّها تطبّق بصرامة على ثلاثة شبّان خرجوا للتسامر في حيّهم ويزج بهم في السجن بل ويموت عبد السلام زيّان جرّاء عدم السّماح له بتناول دوائه ، وسيذهب دمه حتما هدرا بين القبائل .
معشر القضاة المحترمين : إن الحماس الشديد والسرعة الزائدة والإنجاز الذي يتمّ في محاكمة هؤلاء الضعفاء ، حبذا لو تطبقونه ولو مرة واحدة ، واحدة فقط ، ضد من خالف قَسَمَهُ وحنث وعده بخدمة الوطن ، وخالف شعارات شريعته التي هتكت آذاننا، طبقوه مرة واحدة ضد علية القوم ، وضد من جعل الضعفاء يسرقون “خبزة” ليأكلوها من شدة الجوع ، و”حذاء” ليلبسوه ، من أجل إحياء ثقة التونسيين في استقلالية القضاء ونزاهته.
إن قوة العدالة تتمثل بالأساس في قدرتها على إرساء قواعد التجرد والعمومية في التعامل مع مختلف الخاضعين لمنظومتها بدون أي اعتبار لقيمتهم أو مكانتهم المجتمعية أو المالية أو السياسية ، كما أن نفاذ القانون يجب أن يكون على قدم المساواة بين الجميع بدون استثناء.
ومما لا شك فيه ، أن التعامل مع المتهمين على قدم المساواة ، هو تعزيز للثقة في مسار العدالة ببلادنا ، وإشارة واضحة على ألاّ أحد قادر على تجاوز القانون. أما الإصرار على التعامل بمنطق “هذا متاعنا وهذا لا ”، فهذا لن يساهم إلا في فقدان الثقة في جهاز القضاء كليا.
والأكيد أن العدل أساس الملك ، وبه يستقيم كل شيء ، وفي تحققه تحفظ كرامة الناس ويأخذ كل ذي حق حقه ، ويؤدي كل واحد واجبه وتصفى النفوس وترتاح الضمائر ويتلاشى الصدام والخصام، ويتحقق الحب والوئام ، وينتشر الأمن والسلام.
لكن أن يطبّق كل واحد عدله بطريقته وعلى هواه ، فذلك سبب اختلال الموازين وسيادة الظلم ، وما أهلك كثيرا من الأمم إلا أن كانوا يقيمون الحدود على الضعيف ويتركون القوي ، وويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء.
بقلم : رشيد الكرّاي
التعليقات مغلقة.