هُواة السياسة لا يُسْعِدون الشعوب …
بقلم : رشيد الكرّاي
ما صرّح به رئيس الجمهورية أمام الجموع الحاضرة في إحياء الذكرى العاشرة لاندلاع “ثورة” 17 ديسمبر 14 جانفي بسيدي بوزيد ، كان صادما للكثيرين ، ليس فقط لأنه حمل نَفَسًا تحريضيّا مفرّقا بين أبناء الشعب الواحد رغم رمزية المنصب الرئاسي في التجميع والتوحيد ، بل وأيضا ومرّة أخرى ، على صعيد مفهومه للحكم الذي يلخّصه السيد الرئيس في شعار “الشعب يريد” ، ولا يترك مناسبة إلاّ ليخرج علينا بأفعال وأقوال تجعله في خانة العائشين في الأوهام وأحلام النوم واليقظة ، والبعيدين بسنوات ضوئية على نبض شارع بلده ، بما يجعل منه وكأنّه مريض في موت سريري ، وفي عداد المفقودين السياسيين .
لقد كشف كلام الرئيس أنه في واقعنا التونسي ما بعد “الثورة” وبعد حوالي عشر سنوات من عمرها ، اتّضح أنّ مشكلتنا مازالت تكمن في مفهوم الحكم ، وهي مشكلة حُلّت في مختلف أنحاء العالم. ويبقى السؤال عندنا يراوح مكانه : كيف يمكن أن نقدم الشعب على الحكومات ، وهو لم يتجاوز بعد العتبة التي تؤهله لاختيار مَن يحكمه ؟
والحقيقة أن ما أتاه رئيس الجمهورية وما يأتي به رئيس مجلس النواب هذه الأيام ، وماراطون تشكيل الحكومة والوسطاء النكرات الذين دخلوا على خطّ انبعاثها ، ومسلسل اللّقاءات والاجتماعات التي لا تنتهي ، يدفع المراقب للمشهد السياسي في بلادنا ، إلى خلاصة مهمّة مفادها أن السياسة في بلادنا تمارس من قبل أفراد معظمهم للأسف من هواة السياسة ، بينما القلّة منهم من تتوفر فيهم مقوّمات السياسيين المحترفين.. وهناك فرق كبير وكبير جداً بين محترفي السياسة وهواتها.
فمحترفو السياسة هم الأفراد الذين تتوفر فيهم مواصفات القيادة الحكيمة التي تؤهلهم لوضع الحلول والسياسات التي تخدم المجتمع وتقدمه ، وتكون تلك الحلول حلولاً شاملة للحاضر والمستقبل وكلفتها قليلة ووقت تنفيذها قصير.
أمّا هواة السياسة وهم كثر في واقعنا، فيبدو أنهم يعتقدون أن السياسة مجرد شطارة وعشق متيّم لترديد الشعارات البرّاقة التي تدغدغ مشاعر المجتمع ولا تساعد على حل مشاكله ..! وهؤلاء الهواة فهموا السياسة باعتبارها فن الكذب بينما هي فن الممكن . وهذا الصنف من البشر الذين استهوتهم السياسة وهم غير مؤهلين لها ، أصبحوا اليوم عبئاً على المجتمع ، فبدلا من أن يكونوا عوناً لمعالجة المشاكل التي يعانيها المجتمع أصبحوا هم للأسف المشكلة الكبرى المُعيقة لتقدم المجتمع نحو الأمام.
المفارقة أن الشعب التونسي وعلى غرار شعوب عربية أخرى قام بطرد السياسيين المحترفين واستبدلهم بآخرين هواة ، فصار عليه اليوم أن يعلّمهم مبادئ الحرفة التي لم يُخلقوا ولم يتعلموا ولم يتدربوا من أجل القيام بها. ولأن الهواة لم يُخلقوا للمواجهة ، فقد التبس الأمر عليهم وعلينا.
وهنا نريد أن نذكّر هواة السياسة ، أنّ المجتمع يجد في العمل السياسي في ظل التعددية الحزبية ، خيارات سياسية كثيرة ، فهو يقبل السياسات التي يرى فيها مصلحته والتي تساعده على تحسين أوضاعه الحياتية ، وتنقله خطوات متقدمة نحو التنمية ، ومن ثم فإن المجتمع سوف يختار القيادات السياسية التي تحقق له طموحاته في الحياة ، ولا يمكن أن تتحقق هذه الطموحات إلا من خلال محترفي السياسية المؤهلين لقيادة المجتمع نحو التقدم والرقي.
إن بلادنا بحاجة ماسة إلى سياسيين محترفين يتعاملون مع مشاكل المجتمع بمهنيّة سياسية عالية معزّزة بعقلانية سياسية ، بعيداً عن الشطحات التي نشاهدها عند هواة السياسة الذين يعشقون الشعارات ولديهم جنون للظهور الإعلامي ليقولوا أيّ كلام .. ولا همّ لهم سوى الظهور في وسائل الإعلام ليمارسوا فيها طقوس وطنيّتهم المخادعة ، وبيع الأوهام للجماهير المغرّر بها …
التعليقات مغلقة.