يُضْحِكون الناخبين ، ثمّ يَضْحَكون عليهم …
بقلم : رشيد الكرّاي
هؤلاء على من يضحكون ؟ أكيد على أنفسهم بالدرجة الأولى، لكونهم كاذبون من الدرجة الأولى وعلى طريقة غوبلز وزير دعاية هتلر في مقولته سيئة الصيت : اكذب اكذب حتى يصدقك الآخرون .
فإذا صح أن شرّ البلية ما يضحك ، فإن لدينا في تونس من البلاوي ما يكفي ويفيض ، وشرّ البلية لم يعد يضحك أو يُبكي، إنه يدفعنا إلى تحسّس رؤوسنا وما إن بقيت ملتصقة بأكتافنا ، فما يحدث في أيامنا من بلاوي السياسيين وتصرفاتهم وبياناتهم يحتاج إلى جحا جديد يمارس السياسة التونسية الجديدة ، ولا يجد من يعترض طريقه إذا حمل حماره على ظهره وذهب إلى البرلمان التونسي. وحتى هذه الكوميديا التونسية أصبحت همّا وحزنا على التونسي، أكثر مما هي ضحك على الذقون، وهي حسب وصف بعض الفلاسفة قد تكون أقصى مراحل الحزن ، بل إن بعض الضحك لو تذوقناه على أساس الترفيه لوجدناه مرّا حسب أحدهم.
فهل تجهّمت صورة تونس الجديدة ، وممارسات النخب السياسية وصراعاتهم الصبيانية، وانسدّت فيها الآفاق وشحّ فيها الأمل، بحيث أصبح العباد يمارسون الاحتجاج بطريقة الضحك والتنكيت ، وتسفيه الواقع السياسي والتندر على “وضاعة السياسة”، بسخريات اجتماعية في الشوارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بحثا عن الأمل المفقود وانتظار الضوء في آخر النفق ؟؟؟
المشهد التونسي الآن يتيح عدّة قراءات تبعا للرغائب ووجهات النظر، بحيث تبدو معادلة جمع الأضداد في خندق واحد من باب الذكاء والعبقرية السياسية تحت شعار ” الأغبياء فقط هم الذين لا يتغيّرون”
ولأنّنا نعلم أنه مهما علت درجات ذكائهم ، واشتدّ الغباء المؤبّد بأمثالي ، فنحن نشهد اليوم ولادة جديدة لكوارث سياسية قادمة ستؤبّد الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت أشبه بدودة شريطية، لا صلة لأيّ جزء منها بالآخر، فتونس مقبلة على نمط من الحياة لا يتقنه غير المتسوّلين وهو الحياة من يوم إلى يوم ، وبعد ذلك من وجبة إلى وجبة .
ورغم أن الثرثرة السياسية التونسية وصراعاتها تشتدّ ، إلا أن العزلة تتفاقم حتى داخل المجتمع ، فمن يسقط يُداس بالأقدام ومن يستغيث يرتطم صدى صوته بحائط اللامبالاة ، والناس الآن وفي ذروة الهمّ السياسي عادوا يبحثون عن بيضة دجاجة غير مسرطنة بأفعال السياسيين، وعن ثمرة بلا هرمونات سياسية مريضة بالخذلان.
لقد وقع الشعب المقهور بأفعال مراهقي السياسة تحت استبداد سياسي، بغطاء ديمقراطي مزيّف، لذلك أقول إن الاستبداد صفة الأحزاب الدينية مطلقة العنان ، تتصرّف في شؤون الرعيّة كما تشاء بلا خشية حساب ، لأنهم يريدون أن يحوّلوا تونس من بلد حضارات إلى بلد لصوص، يريدون أن يضعوا قفلا على الوطن ويحوّلوه إلى مصرف للنهب في شكل صناديق زكاة وصدقات وتبرّعات وحسابات وإتاوات على مداخيل الموظّفين والأجراء والشرائح المُفقّرة .
اليوم نرى في المشهد التونسي ما لا نراه حتى في الأفلام الهندية والمسلسلات التركية والمكسيكية التي تصل حلقاتها إلى مئات الحلقات من ممارسات درامية لا تتحقق حتى في أحلامنا الكابوسية ، وفي أفلام الخيال العلمي، حيث اختطف الشيوخ والكهول والصبية من مراهقي السياسة ، الوطن والشعب والثروات خلال السنوات الماضية، وأشعلوا حرائق الفئوية (إسلاميين وعلمانيين) وأسسوا قنوات إعلامية طائفية هدفها تهديم القيم التونسية ، وإثارة نوازع الفرقة بين أبناء الشعب الواحد ، وصناعة قادة من ورق يجهلون أبسط أبجديات السياسة والدبلوماسية ونواميس الدولة . وإلا ما هو تفسير هذه الأزمات اليومية التي يعاني منها العباد في تونس ، وكأنها أصبحت دروسا مقررة في فصول الحياة السياسية التونسية ؟ بل إننا اعتدنا يوميا أن نرى هذه الأفلام والمسلسلات في شوارعنا وفي قبة البرلمان لتأزيم المُأزم في أزمات متكررة تُدار في غرفة عمليات لإدارة الأزمات بالأزمات ، وإشغال العباد بأبطال العملية السياسية الخائبة ومغامراتهم “الرامبوية”، وهواجسهم المريضة بالمال والسلطة وتصفية الحسابات القذرة على حساب شعب أصبح أكثر فقرا وتخلفا في ترتيب الدول ، وأصبح شبابه يرمي بنفسه في قوارب الموت هربا من واقع كارثي
في كل دول العالم ثمة سنّ رشد للسياسي أو بشكل أعمّ هو تخطيه لما هو شخصي وإيثاره لمصالح بلاده وشعبه ، لكن في تونسنا العجيبة في كل ظواهرها وبواطنها ، تحوّل سنّ الرشد لدى السياسيين إلى خيانة شعبهم بعد أن فرغوا من خيانة أنفسهم ، وأصبحت لديهم شفرة غير عصية على التفكيك. فالاختلاف لم يعد حول مفهوم النخبة السياسية بل على سنّ الرشد الذي يبلغه هؤلاء.
وكما توقعت في مقال سابق حول “بيضة البرلمان الجديد”، بأن هذه البيضة ستكون وبالا على العباد ، لأن الأصل هي العملية السياسية التي لا تنتج إلا بيضا فاسدا ، وأن ما يجري في الشوارع والبرلمان دراما مثيرة للحزن ، فالجماهير تبحث عن الأمل المفقود وتنقاد أحيانا دينيا في وهم التغيير والإصلاح ، مرة تنسحب وتارة تتقدم ، وهي لا تعلم أن لعبة السياسة أحيانا تجعل منها وقودا لأهداف غير نبيلة. وما حدث في البرلمان من تقسيم للكعكة بين تيّار اللاّهوت وتيار الفساد والاستثمار في بؤس الفقراء والمحتاجين ، وتبادل للأدوار التي لن تكون إلاّ قذرة ، كلها تندرج في كلام مختصر: إنها لعبة السلطة والمال وتصفية الحسابات.
فأيّ طينةٍ هؤلاء الذين يؤزّمون حياة العباد ، بعد أن فقّروا الشعب والوطن، وجعلونا في آخر قائمة الأوطان …
المصيبة أن الكل يعرف الحقيقة ، ويكذب ويكذب حتى يصدق نفسه ، لأن الآخرين راضون مسبقا أن يكونوا صامتين حد الموت …
التعليقات مغلقة.