طوبى للمجرمين الأحياء… فعدالتُهم لا تُحاكم إلاّ الموتى
بقلم : رشيد الكرّاي
قفزا على مسلّمات العقول، واستخفافا بكل القيم، وسحقا لكل الأعراف، وضحكا على كل الذقون، وتغييبا لكل مفردات الوعي والثقافة، وترويجا لكل أنواع التخدير والانبطاح والنزول إلى مستنقعات الجهل، وفي بادرة نادرة ستظلّ لعقود وقرون وصمة عار في جبين القضاء التونسي الذي ذهب بنا الظن بأن عهد الثورة أعاد له ما افتك منه من قيم الحياد والنزاهة وإقامة العدل ، شرعت هذا الأسبوع إحدى دوائر المحكمة الابتدائية المختصّة بتونس في محاكمة موتى بأن استحضرت هياكلهم العظمية هي أقرب اليوم إلى الرماد منها إلى العظام وطفقت في البحث عن أسباب وفاة أحد هذه الهياكل ، وخلفيات ذلك الصراع الشهير اليوسفي البورقيبي الذي أتحدى أي قاض أو محام حاضر في المحاكمة عاش أدنى تفاصيله ، بل وأكاد أجزم بأن من عايشوا تلك الحقبة من تاريخ تونس هم الآن بنسبة تكاد تصل إلى المائة بالمائة بين أيدي ربّهم .
هذه المهزلة التاريخية التي لم تجد للأسف من أبناء القضاء من يتصدّى لها ، تأتي بعد أن تفتقت أذهان شذّاذ الآفاق وقطّاع طرق التاريخ على فكرة شيطانية يصفّون بها حساباتهم مع من كان شوكة في حلوقهم ، فكان هذا المولود اللّقيط ابن الزنا الذي جاء من علاقة حرام بين المنتصرين من سقوط النظام ، ومنظومة قضائية نخرها الفساد والإفساد لعقود طويلة ، والذي أطلقوا عليه اسم العدالة الانتقالية وعهدوا بالسهر على تنفيذ مراحله لواحدة من أباطرة السمسرة بحقوق الإنسان في العالم لا تكاد سفارة أو هيئة أو جمعية أجنبية لا تعرفها ولم تقبض منها ما تيسّر لقاء أتعاب الدفاع عن “حقوق الإنسان” .
لا أظنني سوف أعيش لأسمع وأرى مهزلة كهذه المهزلة ، ولا أتصور أن يُستحمر شعب على ظهر هذا الكوكب كما يُستحمر شعب تونس ، ولن يمر في ذهن بشر ، تسطيح وتغييب واستغفال وقتل لشعب كما يفعل بالشعب التونسي على كافة الأصعدة . هذا المشهد يذكّرني ببيت لأبي العلاء المعرّي حيث يقول: فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمةٌ*** ويا نفس جِدّي، إن دهرك هازلُ فوالله للموت خير من الحياة بعد هذه المهزلة والطامة الكبرى !! سؤالنا لكل من قام بهذه المسرحية – ومؤكّد أنها ليست مجانية – من صاحب الفكرة إلى المنفذين، وبالخصوص تلك الأسماء الرنانة مما يسمى بالعدالة الانتقالية ، أين أنتم من محاكمة قتلة بلعيد والبراهمي ؟ أين أنتم من محاكمة قتلة لطفي نقض سحلا في الشوراع ؟ أين أنتم من محاكمة رموز العنف والترهيب مما يسمّى بروابط حماية الثورة ؟ أين أنتم من محاكمة غزوة الرش على أهالي سليانة تخطيطا وتنفيذا ؟ أين أنتم من محاكمة مجرمي عملية حرق السفارة الأمريكية وتلك الأحكام المهزلة التي هددنا بعدها بلد العام ترامب بالويل والثبور ؟ أين أنتم من محاكمة من غرّر بشبابنا وبعث بهم إلى جحيم صراعات إقليمية ودولية لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، فإذا بعضهم يعود لنا وقد حمل الكلاشينكوف في وجوهنا بعد أن أفتوا له غاسلو أمخاخهم بأننا كفرة ومرتدّين ويجوز قتلنا وقطع رقابنا ؟ أين أنتم من محاكمة من خرّبوا بلدنا بأكمله، وأهلكوا الحرث والنسل، واستباحوا أموال الدولة ومقدّراتها وأمنها وأسرارها ؟ أين حميتكم وغيرتكم على هذا الشعب من هؤلاء الظلمة وهم أحياء يرزقون ؟ أين أنتم ممن قتلوا وهجّروا وسرقوا ويتّموا واغتصبوا واستباحوا كل المحرمات ولم تسلم منهم الأرض والسماء ؟ لماذا النبش في التاريخ وأمامكم ما يملئ العين من القتلة والمجرمين ؟ ثم ما هي الفائدة العملية من هذه المحكمة لأشخاص قتلوا أو ماتوا قبل أكثر من ستين عاما ؟ وفي مصلحة من يصبّ تغييب الوعي لدى الشعب ؟ وفي مصلحة من فرضُ ثقافة التخدير والتحمير وشغل الناس بهذه الترهات وصم آذانهم عن واقعهم ؟ ألم يكن حريا بالمحكمة الموقرة أن تشهد على جرم هؤلاء الأحياء بدلا من محاكمة الموتى ليرتدع من تسول له نفسه خداع الشعب وسرقته وقتله ؟ ثم إن عهد بورقيبة ومن بعده بن علي ، قد ولّى وانتهى ، وتولّى الأمر من بعدهما من لم يقصّر ولم يدخر وسعه في قتل الناس ( نقض وبلعيد والبراهمي ، والمئات من أبناء المؤسستين الأمنية والعسكرية ) وسرقتهم فهلا حاكمتم هؤلاء الأنذال؟ لا أعرف إلى أين تسير بنا القافلة في هذا الدهر العجيب، وأظن أن عقول هؤلاء وأعني من يُحاكم ومن أوحى بالمحاكمة ، تأثرت كثيرا بالمقابر، وهذا جرّهم تأثرا إلى النبش فيها بحثا عن مصدر للرزق ، وبحثا عن قبر جديد لعقل الشعب المدفون والمُغيب من الأصل.
ألا يكفينا الملايين المخدّرة والغائبة عن الوعي والتي بفضلها وبهمّة رجال الدين أصحاب الفتاوى الجاهزة لكل حدث ، تتم السرقات جهارا نهارا لأن الناس غائبون نائمون تساعدهم في ذلك الدولة بكل أجهزتها لتبقيهم في غفلتهم وغيابهم عن سرقاتها وتلاعبها بمقدرات البلد .
وما يدرينا ما سوف تخرج لنا به بقية محاكمات العدالة الانتقامية ؟ الثابت أن باب المنافسة قد فتح ، وربما سوف نسمع بسلسلة محاكمات تاريخية تبتدئ بعليسة والكاهنة وعقبة ابن نافع ومن بعدها حكام الدولة الحفصية والصنهاجية والمرادية ثم الحسينية وهلم جرا ، ولينعم المجرمون الأحياء ولتقر عيونهم ولتبقى لهم الصولة والجولة وليفعلوا ما يشاءون حتى يأتي جيل آخر بعد آلاف السنين ليحاكمهم.
ما هكذا تركب يا زيد الإبل
التعليقات مغلقة.