حتى تكون اللامركزية قارب نجاة بالنسبة لتونس
بقلم : جنان الامام
“نريدها سلطة محلية مستقلة لا سلطة محلية مكبلة”. اليوم ، وبعد مرور بضعة أشهر على نشوة الانتصار في انتخابات المجالس البلدية في تونس، يرفع العديد من أعضاء المجالس البلدية ورؤسائها هذا المطلب للتعبير عن استيائهم العميق من العراقيل العديدة التي تواجههم يوميا في أداء وظائفهم آملين أن يتمكنوا من تسيير المصالح المحلية باستقلالية وفق مبدأ التدبير الحر، في إطار وحدة الدولة الترابية ووحدة منظومتها القانونية. تواجه المجالس البلدية الجديدة المنتخبة في 6 ماي 2018 تحديات عديدة ومتنوعة فهي مدعوة لحل إشكالات متراكمة على امتداد السنوات الماضية مثل أزمة الثقة العميقة التي تعصف بمؤسسات الحكم سواء كانت وطنية أو محلية، بالإضافة إلى تدهور خدمات وتجهيزات القرب والإطار المعيشي ككل ومحدودية الموارد المالية والبشرية وتفاوت التنمية بين الجهات وضبابية الرؤية بخصوص تنفيذ مسار اللامركزية.
ويغلب على الخطاب السياسي بخصوص اللامركزية الاستقطاب الثنائي بين مؤيد لها ومشكك فيها وهو جدل لم تقع إثارته خلال مرحلة إعداد الدستور ولكنه برز لاحقا على خلفية تحديد موعد الانتخابات البلدية. في نظر البعض، تمثل اللامركزية خطرا يهدد كيان الدولة الهش أو مجرد مشروع طوباوي محكوم عليه بالفشل منذ البداية أو غنيمة ستمكن حركة النهضة الإسلامية ، الفائزة برئاسة ثلث البلديات، من التغلغل والسيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع المحلي في اطار ما يُعرف ب”الأسلمة الناعمة”. في المقابل، يعتبر المدافعون عن اللامركزية بأن هذا الخيار المبدئي للجمهورية الثانية هو حل للإشكالات المتراكمة وليس ورطة وجب التخلص منها حيث أنها تعتبر، متى توفرت شروط نجاحها، عنصرا أساسيا من عناصر الإصلاح الديمقراطي والحوكمة المحلية لأنها تعزز التوزيع العمودي للسلطات بين المركز والمستوى المحلي وتسمح بمشاركة أوسع للمواطنين في إدارة الشؤون المحلية وبمساءلة فعلية للمجالس المنتخبة كما أنها تمكن من دفع التنمية وتحسين الخدمات والمرافق المحلية.
لا تمثل اللامركزية حلاّ سِحْريّا ولكنها مسار تدريجي يمتد على عدة سنوات ويتطلب توفر عوامل وشروط عديدة. وقد مثّلت الانتخابات البلدية وإصدار مجلة الجماعات المحلية الحدثين الهامين سنة 2018، حيث أنهما يساهمان في تنزيل أحكام الباب السابع من دستور 27 جانفي 2014 الذي يتعلق بالسلطة المحلية والانطلاق في إصلاحات هيكلية واسعة النطاق تتعلّق بالتأسيس لتصور جديد لإدارة الشأن المحلي تقوم على لامركزية فعلية. في هذا الإطار يتعين على السلطة السياسية وضع التصورات الإستراتيجية بخصوص هذا المسار بالاعتماد على مقاربات تشاركية تمكن من القيام بالمتابعة المتواصلة مع اعتماد المرونة الضرورية لتفادي العراقيل . و حتى لا تكون اللامركزية مفرغة من جوهرها وفاقدة لجدواها ومخيبة للآمال من الضروري ألا تقتصر مقاربات الإصلاح في هذا المجال على اعتبار اللامركزية مسألة تقنية يمكن اختزالها في صياغة قوانين وأوامر وتركيز هياكل وإتباع إجراءات وان تتجاوزها الى توفير ظروف عمل مناسبة للجماعات المحلية هذا بالإضافة الى ضرورة اعتبار الإنسان منطلق وهدف كل السياسات المحلية وعنصرا جوهريا في تحديد الصالح العام المحلي. ويكمن التحدي الرئيسي في مدى قدرة الجماعات المحلية على تعزيز المشاركة المواطنية في الشأن المحلي وتحقيق العدالة الاجتماعية والإدماج داخل المدن واحترام حقوق الإنسان على أساس المساواة وعدم التمييز .
1 – اللامركزية، مسار في حاجة إلى بوصلة
حسب الفصل 66 من مجلة الجماعات المحلية، تعتمد الدولة نظاما لامركزيا ، وتوفّر له تدريجيا مقومات الفعالية والنجاعة. وبالتالي يقتضي مسار تركيز السلطة المحلية التدرج والمرحلية نظرا لحجم التغييرات الجذرية وكلفة هذه الإصلاحات وما تستوجبه من نقل للسلطات ومراجعة شاملة للنظام المالي ونظام الممتلكات وتعزيز للموارد البشرية. ولا يمثل هذا الموضوع حتى بعد اجراء الانتخابات البلدية مسألة مُحفّزة للرأي العام وللنقاش السياسي الجدي حيث غابت مقترحات الطبقة السياسية بخصوص التصور الاستراتيجي لللامركزية والخطوات العملية الكفيلة بتجسيد أهدافها على أرض الواقع وإكسابها بعدا تطبيقيا.
أما على المستوى الحكومي، ولئن انطلقت عملية تصميم مسار اللامركزية مباشرة بعد إصدار دستور 2014 ، فان هذا التمشي يبقى مشوشا ومرتبكا وخفيا. وقد مثلت دراسة مختلف الأبعاد المتعلقة باللامركزية (الجوانب التشريعية والإجرائية والمالية) بالإضافة إلى تصميم مسار اللامركزية إحدى المحاور الكبرى التي اشتغلت عليها الإدارة العامة للجماعات المحلية بوزارة الداخلية مباشرة بعد إصدار الدستور ثم تواصل العمل ضمن وزارة الشؤون المحلية منذ إحداثها في 2016 حيث تم إلحاق هذه الإدارة بها[1]. وفي هذا الإطار قدمت الوزارة وثيقة أولوية في 2016 تتضمن خطة عمل حول إرساء اللامركزية وتفعيل الحوكمة المحلية. وقد تم الحديث لاحقا عن مراحل عديدة للإصلاح قد تمتد على 27 سنة مقسمة على 3 مراحل تستغرق كل مرحلة تسع سنوات مع تحديد أهداف مرحلية تتعلق بدعم الموارد البشرية والموارد المالية ونسبة الاختصاصات المحالة.
في هذا السياق أحدث الأمر الحكومي المؤرخ في 28 جويلية 2016 والمتعلق بتنظيم وزارة الشؤون المحليّة الهيئة العامة للاستشراف ومرافقة المسار اللامركزي وهي
تختصّ بالقيام بالدراسات الضرورية لبلورة المقاربة الوطنيّة لمرحليّة إرساء اللامركزيّة ومرافقة الجماعات المحليّة لضمان انخراطها في هذه المقاربة وذلك باعتماد مسار تشاركي على الصعيد المركزي والجهوي والمحلّي يضمن مساهمة كافة الوزارات والهياكل العموميّة ومختلف مكوّنات المجتمع المدّني. ولإنجاز مهامها تحدث بالهيئة إدارة البحوث والدراسات وإدارة التنسيق والبرمجة.
ولكن إلى غاية الآن لم تنشر الوزارة أي وثيقة مرجعية توضّح خطة العمل الوطنية بخصوص مسار تركيز السلطة المحلية. والمُرجّح أن يتمّ تأجيل ذلك الى ما بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2019، باعتبار أنّ مجلة الجماعات المحلية نصّت على تقديم الحكومة لتصور مسار اللامركزية خلال السنة الأولى من المدة النيابية. فحسب الفصل 66 من مجلة الجماعات المحلية يصادق مجلس نواب الشعب خلال السنة الأولى من كل مدة نيابية على خطة لبرنامج دعم اللامركزية وتطويرها، تقترحها الحكومة. ويكون ذلك ضمن قانون توجيهي يحدّد الأهداف والوسائل المسخّرة لكامل المدة النيابية. أما فيما يتعلق بالتقييم الدوري للخطة، تعرضت المجلة إلى 3 أصناف من التقارير حيث تتولّى الحكومة إعداد تقرير سنوي تقييمي حول مدى تقدم إنجاز اللامركزية ودعمها تعرضه على مجلس نواب الشعب قبل يوم 15 فيفري للسنة الموالية. كما أسند الفصل 67 للمجلس الأعلى للجماعات المحلية وظيفة “إعداد تقرير تقييمي لإنجاز الخطة الخماسية لدعم اللامركزية وتطويرها قبل موفى شهر جوان من السنة الأخيرة من تنفيذ الخطة يحيله إلى مجلس نواب الشعب وإلى الحكومة.” كما مكّن الفصل 68 مجلس نواب الشعب من طلب إنجاز تقرير تقييمي لحصيلة إنجاز برنامج دعم اللامركزية وتطويرها من محكمة المحاسبات لفترة معينة. كما يمكن للمحكمة عند الاقتضاء “تقديم مقترحات عملية لتحسين أداء الجماعات المحلية ضمن تقرير ينشر للعموم”.
كما يطرح استكمال مكونات السلطة المحلية أكثر من علامة استفهام حيث تم تأجيل الخوض في مسألة إحداث الأقاليم وموعد إجراء انتخابات المجالس الجهوية إلى أجل غير معلوم . فيما يتعلق بالأقاليم، يتطلّب هذا الصنف الجديد من الجماعات المحلية تقسيما ترابيا جديدا. ويشتمل الإقليم على عدد من الجهات، وهو يهدف إلى تحقيق الاندماج والتكامل التنموي الاقتصادي المتوازن والعادل بين مختلف المناطق المكونة للإقليم. وقد اعتبر إحداث هذا المستوى الجديد مسألة مُؤجلة باعتبار التدرج في الأولويات ونظرا الى أن العملية معقدة على المستوى الفني فهي تقتضي وضع معايير ومؤشرات مُستحدثة لانجاز هذا التقسيم الترابي، كما أنها لا تخلو من الحساسية على المستوى السياسي بسبب أهمية الإقليم على المستوى المجالي والديمغرافي وما يثيره من مخاوف لدى البعض تتعلق بشبح استهداف الوحدة الوطنية. أما بالنسبة للجهات، حسمت مجلة الجماعات المحلية في الملحق ب مسألة التقسيم الترابي بإحداث 24 جهة وتتمثل وظائف الجهة في تحقيق التنمية الشاملة والمتضامنة والتكامل بين المشاريع التنموية والمرافق العامة ودعمها وتعزيزها بالتنسيق والتعاون مع السلطة المركزية ومع بقية الجماعات المحلية. وقد تمثل الخيار الدستوري في فك الارتباط بين الولاية باعتبارها دائرة ترابية لامحورية للدولة، يوجد على رأسها الوالي الذي يعينه رئيس الحكومة والجهة بوصفها جماعة محلية لامركزية يُنتخب مجلسها انتخابا عاما ومباشرا وهو ما يقطع مع التداخل الهيكلي والوظيفي الذي كان يميز القانون الأساسي الصادر في 4 فيفري 1989 والمتعلق بالمجالس الجهوية والذي يعتبر أن الولاية تمثل في نفس الوقت دائرة ترابية لإدارة لامحورية يتولى شؤونها الوالي ودائرة ترابية لإدارة لا مركزية يتولى شؤونها المجلس الجهوي الذي يرأسه الوالي[2]. ولكن يعتبر الإبقاء على التطابق على مستوى التقسيم الترابي بين الجهة باعتبارها جماعة محلية لامركزية والولاية باعتبارها سلطة لامحورية خيارا قابلا للنقاش لأنه سيكون مصدرا للأزمات ولتنازع الاختصاص بين الطرفين هذا بالإضافة الى أن الجهة لا تمثل الفضاء الأمثل لنجاعة المقاربات التنموية والعمرانية.
لئن طُرحت فكرة تزامن انتخابات المجالس البلدية والمجالس الجهوية في مرحلة أولى عند تصميم رزنامة الانتخابات المحلية في 2016، فإنها لم تكن محل توافق وتم العدول عنها لأسباب سياسية وفنية. والى غاية اليوم لم يتم الخوض من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أو الفاعلين السياسيين في تاريخ الانتخابات الجهوية باعتبار أن الأولوية حاليا تتمثل في الإعداد للانتخابات التشريعية والرئاسية المزمع إجراؤها موفى سنة 2019.
إن غياب رؤية واضحة حول انتخاب المجالس الجهوية من شأنه أن يؤجل تنزيل جزء هام من مجلة الجماعات المحلية ويؤثر سلبا على تقدم مسار اللامركزية في تونس ويعطل إنجاز الإصلاحات الضرورية في هذا المجال[3]. إذ يتوقّف إنشاء هياكل أساسية بالنسبة للامركزية مثل المجلس الأعلى للجماعات المحلية[4] والهيئة العليا للمالية المحلية[5] واللجنة الجهوية للحوار الاقتصادي والاجتماعي على انتخاب المجالس الجهوية.
إن وضوح الرؤية بالنسبة لمسار اللامركزية في تونس أولوية قصوى لإنجاح هذه التجربة التي تتطلب اعتماد السلطة السياسية لمقاربة تقوم على الشفافية والتشاركية، بالإضافة إلى خطة اتصالية لتعريف المواطنين باللامركزية ومراحل تنفيذها وأثارها المجتمعية والاقتصادية والسياسية.
2- اللامركزية على محك الواقع
شهدت قواعد توزيع الصلاحيات بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية تغييرا جذريا بمقتضى الإطار القانوني الجديد المتعلق بالسلطة المحلية و الذي يؤسس لتصور جديد لإدارة الشأن المحلي يقوم على لامركزية فعلية وإعلاء للمحلي على المركزي في العديد من المجالات التي تؤثر مباشرة بحكم قربها على الواقع اليومي للمواطنين. على هذا الأساس أصبح تحقيق الصالح المحلي في صميم اختصاص الجماعات المحلية بما يقتضيه من إدارة للمرافق وإسداء للخدمات وتنمية محلية وتخطيط عمراني. ويُشكّل مبدأ التدبير الحر أحد الضمانات الدستورية لاستقلالية الجماعات المحلية ويعني المبدأ حرية إدارة الجماعات المحلية لشؤونها وهو يشمل حرية التعاقد وحرية التصرف في الموظفين وحرية اتخاذ القرارات وحرية تنظيم وتسيير هياكلها وحرية الإنفاق وحرية التصرف في أملاكها وتسيير مرافقها. وقد تم اعتماد تصنيف جديد للصلاحيات يقوم على التمييز بين الصلاحيات الذاتية التي تنفرد بها الجماعات المحلية والصلاحيات المشتركة التي تشترك فيها الجماعات المحلية مع السلطة المركزية والصلاحيات المنقولة التي تتولى نقلها السلطة المركزية لفائدة الجماعات المحلية مع اعتماد مبدأ التفريع لممارسة الاختصاصين الأخيرين. كما تم التأكيد على أن كل صلاحية جديدة بالنسبة للجماعات المحلية يترافق حتما مع تحويل الموارد المناسبة.
ولكن توجد عراقيل عديدة تشوب نجاح تجربة اللامركزية إذ تشكوا أغلب البلديات من ضعف مزمن لمواردها المالية الذاتية وهو ما أدى إلى تفاقم مديونيتها وعجزها على الإيفاء بتعهداتها نحو شركائها وانحصار عملها على التسيير على حساب البرامج التنموية والاستثمارات الموجهة للسكان. كما يتميّز الوضع الراهن بضعف عدد العاملين بالجماعات المحلية (5% من الوظيفة العمومية) وبتدني نسبة التأطير أي الموارد البشرية المؤهّلة (11% ) كما لا تتجاوز نسبة التأطير الفني 1,6 % مما يؤثّر سلبا على قدرة الجماعات المحلية في مباشرة مختلف وظائفها وخصوصا البلديات ذات المؤشرات التنموية المُتدنّية. على هذا الأساس، وحتى يتسنى للجماعات المحلية ممارسة مختلف صلاحياتها ، يتطلب التأهيل الوظيفي للجماعات المحلية تدعيم القدرات المالية والبشرية لهذه الجماعات وذلك ب:
-تنمية مواردها من خلال استغلال وتعبئة الطاقة الجبائية المتوفرة لديها هذا بالإضافة إلى التسريع في إصلاح النظام الجبائي وتحويل محصول نسبة من الاداءات ذات المردودية العالية إلى الجماعات المحلية.
-تعزيز الرصيد العقاري للجماعات المحلية ووضع آليات لمزيد تنسيق استغلال الملك العمومي للدولة من طرف الجماعات المحلية وتثمينه خدمة للمصلحة المحلية.
– تأهيل الموارد البشرية للجماعات المحلية من خلال إلزامية التكوين ودوريته في المسائل المتعلقة باللامركزية والتخطيط الاستراتيجي سواء بالنسبة لأعضاء المجالس المحلية المنتخبة أو الجهاز الإداري مع الحرص على أن تجرى عملية التكوين في الجهات.
-إنفاذ آليات التضامن والتسوية والتعديل قصد تقليص الفجوة التنموية بين الجماعات المحلية وتمكينها من الموارد البشرية والمالية اللازمة كي تكون قادرة على توفير المرافق و الخدمات الأساسية لمواطنيها.
من جهة أخرى تثير اللامركزية تحديات عدة تتعلق بالتأسيس لعلاقات جديدة بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية وامتدادها في الجهات تقوم على الندية والتعاون والتنسيق وهو ما يحتم إيجاد إجراءات وأطر للتنسيق والتشاور الدائم بين الجماعات المحلية والسلطة المركزية وتفرعاتها الفنية والترابية. ويُعتبر إصلاح منظومة اللامحورية الإدارية من بين أولويات المرحلة الحالية فمن الضروري التعجيل بوضع الإطار القانوني الجديد المنظم اللامحورية على أسس الكفاءة والحياد السياسي والنجاعة وعلى ضوء مقتضيات الوضع الجديد للسلطة المحلية وما يحتمه من تغييرات على مستوى صلاحيات الإدارة اللامحورية .
إن نجاح تجربة اللامركزية يقتضي احكام التنسيق بين الجماعات المحلية والمصالح الخارجية للإدارات المركزية والمنشآت العمومية التابعة لها التي تتولى إدارة مرافق وقطاعات خدماتية ذات صلة بالمجال المحلي في تصور وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية والتأليف بين الرؤية الوطنية والرؤى المحلية. هذا بالإضافة إلى ضرورة تصور آليات للتنسيق بين المخططات التنموية والعمرانية لكلّ صنف من أصناف الجماعات المحلية والمخططات التنموية على المستوى الوطني لتحقيق النجاعة المطلوبة. وتقتضي كل هذه الإصلاحات الهامة اصدار النصوص التطبيقية الضرورية في أقرب الآجال لضبط الآليات والإجراءات الكفيلة بإكسابها بعدا عمليا.
من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى تواتر الإشكالات المتعلقة بتطبيق القرارات البلدية بسبب عدم تعاون الأجهزة الأمنية[6]. وقد نبّه العديد من المستشارين البلديين الى فشلهم في تطبيق القانون والتراتيب البلدية وتنفيذ قرارات الهدم و الإزالة لعدم وجود شرطة بلدية تحت سلطة المجلس البلدي. Haut du formulaire
من جهة أخرى يمثل تحرر الجماعات المحلية فعليا على المستوى القانوني وعلى مستوى الممارسات والعقليات من رقابة الإشراف، التي كانت تمارسها السلطة المركزية على امتداد العقود السابقة بشكل موسع تحديا آخر. وقد عملت مجلة الجماعات المحلية على إخضاع الجماعات المحلية فيما يتعلق بشرعية أعمالها للرقابة اللاحقة أي أنها تقتصر مبدئيا على التحقق اللاحق من قانونية تصرف السلطة المحلية تحت إشراف القضاء الإداري والمالي وهو ما يضمن استقلالية السلطة المحلية. ولكن الإبقاء على سلطة الحلول التي يمكن أن يمارسها الوالي وإمكانية حل المجالس المنتخبة وتسليط عقوبات على أعضائها بتعليق نشاطهم او عزلهم في حاجة إلى مزيد من الضمانات حتى لا تفضي هذه الإجراءات إلى تقنين رقابة إشراف مقنعة في هذا النص الجديد. كما تطرح تجربة البلديات الفتية عدة تساؤلات حول نجاعة المنظومة الرقابية وقدرتها على ضمان دولة القانون و مكافحة الفساد المالي والإداري وهو ما يقتضي مراجعة تنظيم القضاء الإداري والمالي قصد تقريب المحاكم من المتقاضين في الجهات، هذا بالإضافة إلى ضرورة إتباع نفس المنهج بخصوص الهيئات الدستورية المستقلة وخصوصا هيئة مكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة وهيئة حقوق الإنسان.
3- أي تكريس لحقوق الإنسان على المستوى المحلي؟
تعتبر الديمقراطية المحلية مسارا محفوفا بالتحديات المتصلة بالتمثيلية الشاملة لمختلف الشرائح الاجتماعية والأحياء دون أي تمييز أو وصم. وعلى الرغم من اعتماد نظام الاقتراع على القائمات بالتمثيل النسبي مع أكبر البقايا، بالإضافة الى ضمان تمثيلية مؤثرة للنساء من خلال التناصف العمودي والأفقي وللشباب عن طريق تخصيص حصة لهم في القائمات المترشحة في انتخابات المجالس البلدية والجهوية، تُعيد العملية الانتخابية افراز نفس النخبة الاجتماعية المهيمنة وذلك على حساب التنوع والتعددية. كما تعمل المجالس أحيانا تحت ضغط وتأثير شبكات نفوذ، لا تمت بصلة لتحقيق الصالح العام المحلي وتعمل فقط من أجل تحقيق مصالحها الخاصة والفئوية. و يواجه مفهوم المواطنة تحديات عديدة تتمثل في تجذر النظام الأبوي والسيطرة الذكورية على مراكز وشبكات النفوذ السياسي والاقتصادي والاعلامي وتواصل البنى التقليدية مثل القبلية والعروشية في بعض المناطق. وحتى لا تكون اللامركزية مفرغة من فحواها وفاقدة لمعناها، من الضروري ألا يتم اختزال اللامركزية في أبعادها الفنية و أن تتجاوزها إلى اعتبارها مسالة تتعلق أساسا بالإنسان و بحقوقه وحرياته العامة والفردية. و يعد “الميثاق العالمي للحق في المدينة”[7]، أحد الوسائل الرئيسية لمفهوم الحق في المدينة و”المطالبة” به. وتضع تلك المرجعية العالمية تعريفا لمفهوم الحق في المدينة على أنه الاستخدام العادل للمدن بما يتوافق مع مبادئ الاستدامة، والديمقراطية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية. فهو حق جماعي لجميع سكان المدن، مع إعطاء الأولوية للفئات المستضعفة.ويعتبر الحق في المدينة، مبدأ مترابطا ولا يتجزأ عن جميع مبادئ حقوق الإنسان وهو حق أفقي يتضمن بشكل متكامل جميع الحقوق المدنية، والثقافية، والاقتصادية، والبيئية، والسياسية، والاجتماعية التي تكفلها المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.
ويفترض هذا الحق الممارسة الكاملة للمواطنة حيث أن تحقيق جميع مبادئ حقوق الإنسان، والحريات الأساسية، وكذلك ما يقابلها من مسئوليات، هو ضمانة لتحقيق الكرامة والرفاه الجماعي لجميع المتساكنين. وبالتالي ينبغي إدماج الحق في المدينة في مختلف الأنشطة والسياسات التي تعمل المجالس المحلية على تطويرها، قصد تعزيز الاندماج الاجتماعي والجغرافي في إقليم الجماعة المحلية ويبرز ذلك خصوصا فيما يتعلق باستخدام الأراضي وتوفير الخدمات بما فيها الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية وإعلاء المصلحة العامة على المصالح الفئوية والمضاربات العقارية.
كما أن الحق في المدينة يقتضي التسيير الديمقراطي للجماعات المحلية وهو ما يعني أن تعكس المجالس البلدية واليات الديمقراطية التشاركية تنوع المجتمع المحلي وأن تكون قادرة على إدماج جميع الشرائح الاجتماعية للتعبير عن احتياجاتهم وتطلعاتهم.
وقد أشار الدستور إلى مفهوم الديمقراطية التشاركية في التوطئة وفي الفصل 139 من باب السلطة المحلية الذي ينصّ على اعتماد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمواطنات والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها. وقد قامت مجلة الجماعات المحلية بتفصيل آليات المشاركة من خلال التنصيص على جملة من الآليات المتعلقة بالنفاذ الى المعلومة وشفافية التصرف والتسيير ونشر المعلومات المتصلة بذلك (أملاك، عقود، أشغال، استثمارات) والاستشارة والتشاور وصولا إلى إمكانية استفتاء المتساكنين .
وتعتبر مشاركة النساء والشباب وحاملي الإعاقة والمُهمشين في هذا السياق مفصلية حيث أنه من المهم أن تكون لهم نفس الفرص كي يعبروا عن احتياجاتهم وأولياتهم، وأن يتم ترجمة ذلك في مخططات التنمية والميزانيات المحلية وأمثلة التهيئة العمرانية وعلى مستوى الخدمات والبنية التحتية وحماية البيئة. فالأخذ بعين الاعتبار اختلاف وتنوع التجارب والتطلعات من شأنه أن يحقق تكافؤ الفرص والعدالة بين مختلف فئات المجتمع وأفراده رجالا ونساء. على هذا الأساس سيمكن التزام الجماعات المحلية باعتماد آليات الديمقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة من تسيير الشأن المحلي بشكل يحقق المساواة الجوهرية بين المواطنين والمواطنات وسيعزز مساهمتهم في مختلف مجالات الحياة المحلية خصوصا من خلال الشراكات بين الجماعات المحلية والمجتمع المدني. ويعتبر المستوى المحلي الإطار الأنسب والأكثر فعالية للمسار التشاركي وفي بناء الثقة بين المواطنين والمواطنات من جهة والجماعات المحلية من جهة أخرى. إذ تقوم الديمقراطية التشاركية على إعطاء أهمية مركزيَة للمواطنين وللمجتمع المدني وذلك من خلال لعب ادوار أساسية في تعزيز المواطنة الفاعلة مثل التَوعية والتأطير والاقتراح والمساهمة في مختلف مراحل اخذ القرار ولعب دور السلطة المضادَة من خلال المتابعة والرقابة. ويعتبر توسيع المشاركة المتساوية للمواطنين و المواطنات في تسيير الشأن العامّ المحلي وسيلة لتحقيق حوكمة أفضل تتجلى في اعتماد مقاربة مدمجة للمواطنين والمواطنات والمجتمع المدني في ادارة الشؤون العامة مع تدعيم سبل مساءلة السلطات المحلية.
الخاتمة
يوم 6 ماي 2018 انتخب التونسيون والتونسيات مجالسهم البلدية للمرة الأولى بعد الثورة بعد انتظار دام سبع سنوات. وتعتبر هذه الخطوة الأولى في مسار تركيز السلطة المحلية وهو مسار طويل ووعر ولكنه ضروري من أجل حوكمة أفضل للمجال المحلي وما تقتضيه من توفير المرافق والخدمات الأساسية وتقليص التفاوت في التنمية بين الجهات وترسيخ المواطنة المتساوية والمدمجة. ويجدر التذكير بأن باب السلطة المحلية في الدستور ومجلة الجماعات المحلية لم يدخل منها حيز التنفيذ الا نزر قليل من الفصول. وبالتالي تتمثل الأولوية حاليا في التسريع في وضع الإطار التشريعي والترتيبي الجديد لتجسيد اللامركزية على أرض الواقع وإكسابها بعدا تطبيقيا.
وبقدر حاجة اللامركزية في تونس إلى إرادة سياسية واضحة وغير ملتبسة بخصوص الالتزام بهذا الخيار الدستوري والى مقاربة استراتيجية دقيقة توضح وجهة المسار على المستوى القريب والمتوسط، فهي تحتاج أيضا إلى يقظة وعنفوان المجتمع المدني الحالم بتونس أفضل من خلال اللامركزية. في هذا السياق من المهم أن تتضافر جهود جميع الفاعلين في الشأن العام حتى تشكل قوة ضغط على البرلمان والسلطة التنفيذية، تكون قادرة على تعبئة الرأي العام للدفاع عن اللامركزية وضرورة تجسيدها وعدم ترك الكلمة الفصل للأحزاب السياسية الحاكمة حتى تُفصّل اللامركزية على مقاسها وتفرض أولوياتها ومصالحها الظرفية والفئوية.
المصدر : المفكرة القانونية
التعليقات مغلقة.