وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون …
بقلم : رشيد الكرّاي
هنيئا “لدولة الكامور الشقيقة” انتصارها على الدولة التونسية الجارة وتوقيع ملكها الجديد الصادق باي على معاهدة الاستسلام ، ولم يبق للدولة المنتصرة إلاّ أن تعيّن مقيمها العام وتبسط نظام الحماية عليها .
والحقيقة أن “الدولة الشقيقة” هذه ، لم تشذّ عن منطق التاريخ ، فالدول التي تفقد قوّتها وأسباب ديمومتها وتتهاوى مؤسساتها تجلب أطماع الآخرين سواء كانوا أجوارا أو قادمين من وراء البحار . لكنّ الطريف هذه المرّة أن أطماع الآخرين في الدولة التونسية لم تأتها من الجيران أو من وراء البحار وما أكثرهم ، بل جاءت من الدّاخل التونسي نفسه في غمرة الفوران الثوري الذي انتاب جلّ التونسيين بعد الإطاحة بالنظام السابق ، والذي كان من المفروض أن يعالج أسباب انتفاضتهم من تنمية عادلة ومحاربة الفساد ومؤسسات ديمقراطية ، فإذا بهم تحوّلوا إلى معاول لهدم دولتهم والمكاسب التي راكمتها بفضل تضحيات آبائهم وأجدادهم وأجيال المناضلين منهم من أجل الاستقلال وبناء وتأسيس الدولة الحديثة .
والحقيقة الأخرى التي باتت ساطعة اليوم أمام أنظار الجميع أنّه ما كنّا لنصل إلى ما وصلنا إليه من جلد وهدم للذّات ، وأن يصبح التونسيون أعداء شرسين لدولتهم ، لو توفّر في القيادات المتعاقبة طيلة العشر سنوات هذه ، الحدّ الأدنى مما قاله زعيم فرنسا الشهير شارل ديغول : رجل الدولة الحقيقي هو الذي يرغب في المخاطرة ويضع نصب عينيه أجيال المستقبل وليس الانتخابات القادمة .
فأين نحن من هذا الصنف من رجال الدولة ، وقد سارع أحدهم بالتوقيع على ما عرف باتفاق الكامور الشهير الذي يتجاوز بشكل غير مسبوق مقدّرات وإمكانيات الدولة استعدادا لانتخابات قادمة ، ثم يذعن آخر لبلطجة بعض الصعاليك والخارجين عن القانون إذعانا لأطراف يحرّكونهم ويوفّرون له الحزام السياسي الضروري للبقاء في الحكم ، بل ويخرج علينا ضاحكا مبشّرا إيّانا بمزايا اتفاق سيكون نقطة الانطلاق لتعميمه في بقية الجهات ، وهو ما يعني ضمنيّا دعوتها لتكوين عصاباتها الذاتية المسمّاة بالتنسيقيات لتكون بديلا عن الهيئات المنتخبة وتمثيليّات الدولة والأحزاب والمنظمات .
وهذه تسمّى في الحقيقة سياسة تزيين القبح وتجميل البشاعة ونشر ثقافة الانعزالية والانطواء على الذات ، ذلك أن أسوأ شىء يمكن أن يقع فيه أي حاكم فى التاريخ هو أن يقدم مبررات منطقية لقرارات غير منطقية . والجريمة الكبرى التى تقع فيها بعض الزعامات التاريخية هي أن تقدم الفشل على أنه نجاح والهزائم على أنها انتصارات والهبوط الاقتصادي على أنه انتعاش مالي !
والجريمة الأكبر التى تحدث فى حق الشعوب هي استغلال ضعف الثقافة السياسية للجماهير وتدنّي مستوى تعليمهم من أجل تسويق سوء إدارة الشأن العام وترويج الفشل . والنكبة التى يمكن أن تصيب أي شعب من الشعوب هي أن يبتلى بزعيم يحسن الحديث ، ساحر الكلام ، بارع فى تسويق الفشل ، متمكّن من مفردات اللغة ، عميق فى معرفة الثقافة الشعبية للجماهير!
هذا النوع من الحكام يحترف القدرة على بيع الأوهام للجماهير وإعادة صياغة الكوارث التى يرتكبها نظامه بشكل كاذب ، لكنه مقنع للجماهير!
والتاريخ يخبرنا بأنّ هناك زعامات صوتية عاشت واستمرت من خلال شعارات نارية وخطب حماسية وإنجازات كارثية . هذه الزعامات باعت الوهم لشعوبها لفترات طويلة ، لكن التاريخ فى نهاية الأمر يكشف للأجيال التالية حقيقتهم ويكشف حجم الجرائم التى ارتكبوها فى حق شعوبهم ، والأمثلة على ذلك في منطقتنا العربية خاصّة ، تحفل بأكثر من اسم ، وما يجري فيها لا يحتاج إلى بيان …
التعليقات مغلقة.